البلشفية طريق الثورة: الفصل السادس: سنة الثورة – كل السلطة للسوفييتات

بعد أن تمكن لينين من كسب الحزب إلى منظور ثورة جديدة بقيادة الطبقة العاملة، انتقل إلى توضيح الخطوة التالية وهي كسب الجماهير. ليس هناك من ادعاء أبعد عن الحقيقة من ذلك الافتراء الذي يتكرر كثيرا حول أن لينين كان متآمراً مصمماً على الاستيلاء على السلطة من طرف أقلية من الثوريين، على النحو الذي دعا إليه الثوري الفرنسي العظيم، بلانكي، خلال القرن التاسع عشر. فلينين رغم أنه كان يقدر صدق وبطولة بلانكي، الذي طور رؤى مهمة حول أسلوب الانتفاضة، لم يكن يرى أبدا أن الثورة الاشتراكية يمكن أن تحدثها أقلية من الثوريين المصممين. وعلى النقيض من ذلك فقد حافظ لينين طوال حياته على إيمان قوي بالقدرات الثورية والإبداعية للطبقة العاملة. يجب أن تستند الاشتراكية إلى الحركة الذاتية للبروليتاريا، ومشاركتها النشطة ورقابتها على المجتمع منذ اللحظة الأولى. حتى قبل عودته إلى روسيا كان هناك عدد من البلاشفة الذين رفعوا، بدافع من نفاد الصبر، شعار: “فلتسقط الحكومة المؤقتة”. كان هذا شعارا يسراويا متطرفا، لأن جماهير العمال كانت ما تزال تحت تأثير القادة الإصلاحيين للسوفييت، الذين كانوا يدعمون الحكومة المؤقتة. لم تكن المهمة المطروحة على الحزب البلشفي في تلك المرحلة هي الاستيلاء على السلطة، بل كانت المهمة هي كسب الجماهير. وقد لخص لينين هذه الفكرة في وصيته الشهيرة: اشرح بصبر!

[Source]

كان الحزب البلشفي قد نجح في كسب عدد كبير من العمال الأكثر وعيا وتقدما. وكان نفوذهم، خاصة في بتروغراد، ينمو كل ساعة. لكن ذلك لم يكن كافيا، فمن أجل تغيير المجتمع لا يكفي الحصول على دعم الطليعة وحدها، أو أن يضم الحزب بضع عشرات من الآلاف. بل من الضروري كسب ملايين العمال المتخلفين سياسيا، وفي حالة روسيا لا بد أيضا من كسب قطاع كبير، على الأقل، من الفلاحين، بدءا من الفلاحين الفقراء والبروليتاريا وشبه البروليتاريا الريفية. وفي ربيع عام 1917، كانت هذه المهمة العملاقة ما تزال في بداياتها المبكرة. كان من الضروري أن يفتح العمال البلاشفة طريقا نحو بقية الطبقة العاملة، وخاصةً في الأقاليم النائية، التي كانت ما تزال لديها أوهام حول القادة الإصلاحيين. كان من الضروري التحدث إليها بلغة تفهمها، وتجنب الممارسات اليسراوية المتطرفة التي من شأنها تنفيرها.

كان لينين يفهم أن الطبقة العاملة تتعلم من التجربة، وخاصة تجربة الأحداث الكبرى. والطريقة الوحيدة التي يمكن بها للتيار الثوري، الذي ما يزال أقلية، كسب الجماهير إلى صفه هي اتباع مجريات الأحداث إلى جانب الجماهير، والمشاركة معها في النضال اليومي الجاري، وطرح شعارات تتوافق مع المستوى الحقيقي لتطور الحركة، ويشرح بصبر الحاجة إلى إحداث تغيير كامل للمجتمع باعتباره السبيل الوحيد للحل. أما الدعوات المتطرفة إلى الانتفاضة والحرب الأهلية فلن تكسب الجماهير، ولا حتى الفئات المتقدمة، بل ستؤدي فقط إلى تنفيرها. يصدق هذا، كما رأينا أعلاه، حتى في خضم الثورة. وعلى العكس من ذلك من الضروري تحميل مسؤولية حدوث العنف والحرب الأهلية للقادة الإصلاحيين الذين يملكون القدرة على الاستيلاء على السلطة بطريقة سلمية، وبسبب رفضهم القيام بذلك يجعلون إراقة الدماء أمرا حتميا.

لينين، الذي أدرك أن الطبقة الحاكمة تريد استفزاز العمال لارتكاب أعمال عنف سابقة لأوانها، ندد بأولئك الذين زعموا أنه يدعوا إلى الحرب الأهلية. وقد نفى مرارا وتكرارا تهمة دعم البلاشفة للعنف، وألقى المسؤولية الكاملة عن العنف على كاهل الطبقة الحاكمة. لم يكن ذلك يعجب اليسراويين المتطرفين الذين عجزوا عن فهم أن تسعة أعشار مهام الثورة الاشتراكية هي العمل من أجل كسب الجماهير عن طريق الدعاية والتحريض والشرح والتنظيم. بدون ذلك، يصير كل حديث عن الحرب الأهلية والانتفاضة مجرد مغامرة غير مسؤولة، أو بلانكية، كما تسمى في المصطلحات العلمية للماركسية.

إليكم ما قاله لينين حول هذا الموضوع: «إن الحديث عن الحرب الأهلية قبل أن يدرك الشعب الحاجة إليها هو بلا شك سقوط في البلانكية»[1].

لم يكن البلاشفة هم الذين أثاروا باستمرار شبح العنف والحرب الأهلية، بل البرجوازية وحلفاؤها الإصلاحيون هم من كانوا يقومون بذلك. لقد أنكر لينين مرارا أي تلميح إلى أن البلاشفة يؤيدون العنف. وفي 25 أبريل، احتج في برافدا على “التلميحات الخبيثة” التي أطلقها “الوزير نيكراسوف” حول أن البلاشفة “يدعون للعنف”، وقال:

«أنت تكذب، أيها السيد الوزير والعضو الجدير بحزب “حرية الشعب”. إنه السيد غوتشكوف هو الذي يبشر بالعنف عندما يهدد بمعاقبة الجنود لتمردهم على السلطات. إنها “روسكايا فوليا”، التي هي صحيفة محرضة على الشغب ولسان حال “الجمهوريين” الذين يروجون لأعمال الشغب، وهي صحيفة موالية لك، هي التي تدعو إلى العنف.

أما برافدا وأنصارها فلا يدعون إلى العنف، بل على العكس من ذلك، إننا نعلن بوضوح تام، وبالتأكيد أن جهودنا الرئيسية ينبغي أن تتركز الآن على أن نشرح للجماهير البروليتارية مشاكلها البروليتارية، المتميزة عن البرجوازية الصغيرة التي استسلمت للسموم الشوفينية»[2].

يوم 21 أبريل (04 ماي –بالتقويم الجديد-)، أصدرت اللجنة المركزية البلشفية قرارا كتبه لينين، كان الهدف منه هو كبح جماح قيادة بتروغراد المحلية التي كانت تسبق الأحداث. وكان الهدف من ذلك تحميل المسؤولية في حدوث أي عنف للحكومة المؤقتة ومؤيديها، واتهام “الأقلية الرأسمالية برفض الخضوع لإرادة الأغلبية”. وفيما يلي فقرتان من ذلك القرار:

«1- يجب على دعاة الحزب والمتحدثين باسمه أن يدحضوا الأكاذيب الدنيئة التي تنشرها الصحف الرأسمالية والصحف الداعمة للرأسماليين بأننا ندعوا إلى الحرب الأهلية. هذه كذبة حقيرة، لأنه في الوقت الحالي، طالما أن الرأسماليين وحكومتهم لا يستطيعون ولا يجرؤون على استخدام القوة ضد الجماهير، طالما أن جماهير الجنود والعمال يعبرون بحرية عن إرادتهم وينتخبون ويعزلون بحرية جميع السلطات- سيكون في مثل هذه الظرفية أي تفكيرفي الحرب الأهلية ساذجا ولا معنى له، ولا فائدة منه؛ في مثل هذه الظرفية يجب أن يكون هناك الامتثال لإرادة غالبية السكان والانتقاد الحر لهذه الإرادة من قبل الأقلية الساخطة؛ وإذا ما تم اللجوء إلى العنف، فستقع مسؤولية ذلك على عاتق الحكومة المؤقتة ومؤيديها.

2- من خلال الاحتجاج ضد الحرب الأهلية تحاول حكومة الرأسماليين وصحفها إخفاء امتناع الرأسماليين، الذين يشكلون، باعتراف الجميع، أقلية ضئيلة من الشعب، عن الخضوع لإرادة الأغلبية»[3].

وقد أكد لينين في كل خطبه ومقالاته، التي كتبها في النصف الأول من عام 1917، على إمكانية وأفضلية الانتقال السلمي للسلطة إلى السوفييتات. بل إنه أشار حتى إلى إمكانية دفع تعويضات للرأسماليين الذين يتم الاستيلاء على مشاريعهم، شريطة أن يسلموا المصانع دون أي تخريب، والتعاون في عملية إعادة تنظيم الإنتاج:

«لا تحاول تخويفنا، أيها السيد شولجين. فحتى عندما سنكون في السلطة، لن نأخذ منك “القميص الأخير”، بل سنضمن أن تحصل على ملابس جيدة وطعام جيد، بشرط أن تقوم بالعمل الذي يتناسب مع قدراتك ومؤهلاتك!»[4].

يعلم الجميع أن هذا كان هو الشعار المركزي للينين والبلاشفة في عام 1917. لكن قلة قليلة من الناس فقط هم من فهموا المحتوى الحقيقي لهذا الشعار. ما هو المعنى الحقيقي لشعار: “كل السلطة للسوفييتات”؟ هل كان يعني الحرب الاهلية؟ الانتفاضة؟ الاستيلاء على السلطة من طرف البلاشفة؟ كلا على الاطلاق. لقد كان البلاشفة يمثلون أقلية داخل السوفييتات، التي كانت تسيطر عليها الأحزاب الإصلاحية، الاشتراكيون الثوريون والمناشفة. لم تكن المهمة المركزية هي الاستيلاء على السلطة، بل كسب الأغلبية التي كانت ما تزال لديها أوهام في الإصلاحيين. أقام البلاشفة “شرحهم الصبور” على أساس الفكرة، التي تكررت باستمرار في كتابات وخطب لينين، من مارس حتى عشية ثورة أكتوبر، بأن الزعماء الإصلاحيين يجب أن يأخذوا السلطة بأيديهم، وأن هذا سيضمن التغيير السلمي للمجتمع، وأن البلاشفة يؤيدون هذا بكل إخلاص، وأنه إذا قام القادة الإصلاحيون بالاستيلاء على السلطة، فإن البلاشفة سيقتصرون على النضال السلمي من أجل كسب الأغلبية داخل السوفييتات.

وفيما يلي بعض الأمثلة عن الكيفية التي طرح بها لينين المسألة (وهناك الكثير منها):

«على ما يبدو، لم يكن جميع مؤيدي شعار “يجب نقل كل السلطة إلى السوفييتات” قد فكروا مليا في حقيقة أنه كان شعارا للتقدم السلمي للثورة – سلميا ليس فقط بمعنى أنه لم يكن هناك أي أحد، ولا أي طبقة ولا أي قوة ذات أهمية، آنذاك (بين 27 فبراير و04 يوليوز) في إمكانه مقاومة ومنع نقل السلطة إلى السوفييتات. هذا ليس كل شيء. كان من الممكن أن يكون التطور سلميا حتى بمعنى امكانية اتخاذ صراع الطبقات والأحزاب داخل السوفييتات لشكل أكثر سلمية وبدون ألم، بشرط انتقال كامل سلطة الدولة إلى السوفييتات في الوقت المناسب»[5].

بعد فشل انتفاضة كورنيلوف، تبنى لينين مرة أخرى شعار “كل السلطة للسوفييتات”، في مقال بعنوان “بصدد المساومات”، ودعا إلى إجراء مساومة مع الزعماء الإصلاحيين، بحيث لا يقوم البلاشفة بالتحريض لفكرة الانتفاضة، شريطة أن يقطع قادة السوفييت مع البرجوازية ويأخذون السلطة بأيديهم. كان هذا ممكنا جدا بعد هزيمة الهجوم المعادي للثورة. كان الرجعيون محبطين ومشوشين، بينما كان العمال واثقين في أنفسهم وأيدت الغالبية العظمى نقل السلطة إلى السوفييتات. في ظل تلك الظروف، كان من الممكن تنفيذ الثورة بطريقة سلمية، دون عنف ولا حرب أهلية. لم يكن هناك شيء ليمنع ذلك. كانت كلمة واحدة من قيادة السوفييتات كافية لتحقيق ذلك. وبعد ذلك كان من الممكن تسوية مسألة من هو الحزب الذي سيحكم من خلال النقاش السلمي داخل السوفييتات:

«لن يطرح البلاشفة، على ما أعتقد، أي شروط أخرى، واثقين من أن الثورة ستمضي بسلام وأن الصراع الحزبي داخل السوفييتات سيتم بطريقة سلمية بفضل الحرية الكاملة للدعاية والتطبيق الفوري لديمقراطية جديدة في تكوين السوفييتات (انتخابات جديدة) وفي أدائها.

ربما قد صار هذا مستحيلا؟ ربما. لكن إذا كانت هناك ولو فرصة واحدة في المائة، فإن محاولة تحقيق مثل هذا الاحتمال تبقى جديرة بالاهتمام»[6].

كان لينين مقتنعا تماما بأن الثورة السلمية كانت ليس فقط ممكنة، بل مرجحة، بشرط واحد وهو أن يقوم الزعماء الإصلاحيون في السوفييتات بالاستيلاء على السلطة بدلا من تكريس كل طاقاتهم لدعم حكم الملاكين العقاريين والرأسماليين. لكن رفضهم تولي السلطة، خاصة بعد هزيمة كورنيلوف، هدد روسيا بالكوارث. هذا هو التناقض الأبدي للإصلاحية، وهو أنه من خلال تمسكهم بمفهوم التحول البطيء التدريجي والسلمي للمجتمع، دائما ما يخلقون أكثر الأوضاع تشنجا وكارثية وعنفا، ويمهدون الطريق لانتصار الردة الرجعية. كان لينين ينتقد بشدة ترددات وتذبذبات المناشفة والاشتراكيين الثوريين الذين كانوا يرفضون الانفصال عن البرجوازية والاستيلاء على السلطة. وكما هو الحال دائما، حاول الإصلاحيون تخويف الجماهير بخطر الحرب الأهلية، وهو المبرر الذي تعامل معه لينين بكل احتقار وسخرية. وفي مقاله المعنون بـ “الثورة الروسية والحرب الأهلية” قام بالرد على هذه المبررات الواحدة منها تلو الأخرى، قائلا:

«إذا كان هناك من درس أكيد بشكل مطلق للثورة، درس أثبتته الحقائق تماما، فهو أنه فقط التحالف بين البلاشفة والاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، فقط النقل الفوري لكل السلطة إلى السوفييتات، ما يمكنه أن يجعل من احتمال حرب أهلية في روسيا مسألة مستحيلة، لأن البرجوازية عاجزة عن شن حرب أهلية ضد هذا التحالف، ضد سوفييتات نواب العمال والجنود والفلاحين؛ فمثل تلك “الحرب” لن تستمر ولو لمعركة واحدة؛ لن تتمكن البرجوازية من أن تحرك، للمرة الثانية منذ تمرد كورنيلوف، ولو “كتيبة همجية”، أو حتى ذلك العدد السابق من وحدات القوزاق لمهاجمة الحكومة السوفياتية!»[7].

لقد أكد أن أي حكومة تستند على جماهير العمال والفلاحين، حكومة تضع حداً للحرب، وتمنح الأرض للفلاحين وتتصرف لصالح الشعب العامل، سيكون في إمكانها أن تقضي على مقاومة الطبقات المالكة، وأنه على هذا الأساس سيكون:

«تحقيق تطور سلمي للثورة مسألة ممكنة ومرجحة إذا تم نقل كل السلطة إلى السوفييتات. يمكن لنضال الأحزاب من أجل السلطة داخل السوفييتات أن يجري بطريقة سلمية، إذا كانت السوفييتات ديمقراطية بالكامل، وتم القضاء على تلك “السرقات الصغيرة” والانتهاكات ضد المبادئ الديمقراطية، مثل إعطاء الجنود الحق في ممثل واحد لكل 500 ناخب، في حين أن العمال لديهم ممثل واحد لكل 1000 ناخب. يجب أن تختفي مثل هذه السرقات الصغيرة في ظل جمهورية ديمقراطية.

ليس هناك ما تخشاه السوفييتات التي تكون قد قدمت كل الأرض للفلاحين دون مقابل، وأعطت السلام العادل لجميع الشعوب، عندما تواجه تحالف البريطانيين والفرنسيين والبرجوازيين الروس، الكورنيلوفيين، والبوشانانيين، والريابوشينسكيين، والميلوكوفيين، والبليخانوفيين والبوتريسوفيين.

إنه لأمر حتمي طبعا أن تقاوم البرجوازية نقل الأرض إلى الفلاحين دون مقابل، وبقية الإصلاحات المماثلة في مجالات أخرى من الحياة، والسلام العادل والقطع مع الإمبريالية. لكن لكي تصل هذه المقاومة إلى مرحلة الحرب الأهلية، يجب أن تتوفر جماهير من نوع ما، قادرة على القتال ضد السوفييتات وهزيمتها. إن البرجوازية لا تمتلك هذه الجماهير، ولا يمكنها أن تحصل عليها من أي مكان».

من المثير للدهشة أنه حتى الآن، لم يتم فهم مقاربة لينين تجاه مسألة السلطة. ليس فقط أعداء البلشفية البرجوازيون هم وحدهم من يسعون بإصرار إلى أن يصوروا لينين بكونه متعصبا عنيفا، محبا لسفك الدماء والفوضى (يعتبر أورلاندو فيغز آخر مثال عن هذا التشويه المثير للاشمئزاز)، بل، ويا للعجب، هناك العديد من العصبويين الذين يتخيلون، لسبب ما، أنهم لينينيون عظماء، والذين يكررون نفس الهراء الطفولي حول حتمية العنف والحرب الأهلية، دون حتى أن يدركوا أن موقف لينين كان هو عكس ذلك تماما. لقد أوضح لينين في عشرات المقالات والخطب خلال عام 1917، أن الفكرة القائلة بأن الثورة تعني بالضرورة إراقة الدماء هي مجرد كذبة رجعية، ينشرها البرجوازيون والإصلاحيون بشكل مقصود من أجل تخويف الجماهير:

«يتحدث البعض عن “أنهار الدم” خلال حرب أهلية. هذا مذكور في قرار الكاديت الكورنيلوفي المذكور أعلاه. وتتكرر هذه العبارة بألف طريقة من قبل جميع البرجوازيين والانتهازيين. لكن ومنذ تمرد كورنيلوف صار جميع العمال الواعين طبقيا يضحكون من ذلك، وسوف يستمرون في الضحك ولا يمكنهم أن يتوقفوا عن الضحك»[8].

إذا درسنا تاريخ العالم على مدار المائة عام الماضية، سنرى أنه كان في إمكان الطبقة العاملة، في مناسبات لا حصر لها وفي العديد من البلدان، أن تستولي على السلطة بطريقة سلمية، كما حدث في عام 1917، لو أن قادة النقابات العمالية والأحزاب الاشتراكية والشيوعية أرادوا ذلك. لكن، مثلهم مثل المناشفة والاشتراكيين الثوريين، لم تكن لديهم أي نية للاستيلاء على السلطة. لقد وجدوا ألف حجة “ذكية” لإثبات أن “الوقت لم يحن بعد”، وأن “موازين القوى غير مواتية”، وبالطبع أن هناك خطر نشوب الحرب الأهلية والعنف، وإراقة الدماء في الشوارع وما إلى ذلك. كانت تلك هي حجة الزعماء العماليين الألمان في عام 1933، عندما تفاخر هتلر بأنه وصل إلى السلطة “دون أن تنكسر ولو نافذة زجاجية”، على الرغم من أن المنظمات العمالية الألمانية كانت الأقوى في العالم. إنها دائما نفس القصة مع هؤلاء السيدات والسادة، حيث أن “تدرجهم” الإصلاحي يؤدي دائما إلى الكارثة. إذا كانت هناك إراقة دماء، فإنها تكون دائمًا نتيجة لسياسات التعاون الطبقي، والغباء البرلماني، والجبهات الشعبية، التي تعتبر نفسها “واقعية” و”عملية”، لكنه يتضح دائما في النهاية أنها أسوأ أنواع اليوتوبيا.

«إن مهمتنا تتمثل في المساعدة على بذل كل ما هو ممكن من أجل تأمين الفرصة “الأخيرة” لتحقيق تطور سلمي للثورة، والمساعدة في ذلك من خلال طرح برنامجنا وتوضيح طابعه الوطني العام وتناغمه المطلق مع مصالح ومطالب الغالبية العظمى من السكان.

بعد الاستيلاء على السلطة، ما يزال بإمكان السوفييتات في الوقت الحاضر -وربما تكون هذه هي فرصتها الأخيرة- تأمين تطور سلمي للثورة، وإجراء انتخابات سلمية للنواب من قبل الشعب، والصراع السلمي للأحزاب داخل السوفييتات، واختبار برامج مختلف الأحزاب في الممارسة العملية، والتمرير السلمي للسلطة من حزب إلى آخر»[9].

وقد لخص تروتسكي ذلك الموقف في كتابه تاريخ الثورة الروسية، بالطريقة التالية:

«نقل السلطة إلى السوفييتات كان يعني، بمعناه الفوري، نقل السلطة إلى المتنازلين. كان في إمكان ذلك أن يتم بطريقة سلمية، ببساطة عن طريق إقالة الحكومة البرجوازية، التي استمرت في الوجود فقط بسبب حسن نية المتنازلين وبقايا ثقة الجماهير بهم. لقد كانت دكتاتورية العمال والجنود واقعا حقيقيا منذ 27 فبراير. لكن العمال والجنود لم يكونوا [وهذا حتمي في تلك المرحلة] على علم بهذه الحقيقة. لقد سلموا السلطة للمتنازلين الذين قاموا بدورهم بتسليمها للبرجوازية. لقد استندت مساعي البلاشفة للتطور السلمي للثورة ليس على أمل أن تقوم البرجوازية بتسليم السلطة طواعية للعمال والجنود، بل على قيام العمال والجنود بمنع المتنازلين من تسليم السلطة للبرجوازية.

كان تركيز السلطة في يد السوفييتات، في ظل نظام الديمقراطية السوفياتية، سيفتح أمام البلاشفة الفرصة ليصبحوا أغلبية داخل السوفييتات، وبالتالي تشكيل حكومة على أساس برنامجهم. ولتحقيق هذه الغاية لم تكن الانتفاضة المسلحة ضرورية. كان بالإمكان أن يتم تداول السلطة بين الأحزاب بطريقة سلمية. كل الجهود التي بذلها الحزب من أبريل إلى يوليوز كانت موجهة نحو ضمان تطور سلمي للثورة من خلال السوفييتات. “إشرح بصبر”، كان هذا هو مفتاح السياسة البلشفية»[10].

لكن ربما كان لينين وتروتسكي مجرد مخادعين؟ ربما طرحا فكرة الانتقال السلمي فقط من أجل كسب ثقة العمال، من خلال استغلال أوهامهم الإصلاحية السلمية؟ إن تخيل مثل هذا الشيء يعني عدم فهم أي شيء عن نهج لينين وتروتسكي، الذي كان مبنيا على أساس الصدق الثوري. شرح تروتسكي، في شهادته أمام لجنة ديوي، هذا الأمر بوضوح شديد قائلا: «أعتقد أن السياسة الماركسية، والثورية عموما، هي سياسة بسيطة للغاية: “كن صريحا! لا تكذب! قل الحقيقة!” إنها سياسة بسيطة للغاية»[11].

لم يكن لدى الحزب البلشفي برنامجان مختلفان، أحدهما للأقلية المثقفة والآخر للعمال “الجاهلين”. لقد كان لينين وتروتسكي دائما يقولان الحقيقة للطبقة العاملة، حتى عندما كانت هذه الحقيقة مريرة وغير مستساغة. وبالتالي فإنهما عندما أكدا في عام 1917، في خضم الثورة، وعندما كانت مسألة السلطة على رأس جدول الأعمال، على فكرة أن التحول السلمي ممكن (ليس “من الناحية النظرية” بل ممكن فعليًابشرط أن يتخذ القادة الإصلاحيون إجراءات حاسمة، فإنهما قاما بذلك لأن تلك هي الحقيقة بالفعل. وقد كانت كذلك. فلو تصرفت القيادة السوفياتية بشكل حاسم، لكانت الثورة ستتم بطريقة سلمية، دون حرب أهلية، لأنها كانت تحظى بدعم الأغلبية الساحقة من المجتمع. ومن خلال قولهما هذه الحقيقة البسيطة للعمال والفلاحين، لم يكن لينين وتروتسكي ينشران الأكاذيب، أو يتخليان عن النظرية الماركسية للدولة، بل كانا فقط يقولان ما كان واضحا لجماهير العمال والفلاحين.

من خلال إبراز التناقض الموجود بين أقوال الزعماء الإصلاحيين وأفعالهم، أعد البلاشفة الطريق لكي يكسبوا إلى صفوفهم الأغلبية الحاسمة داخل السوفييتات، وأيضا داخل الجيش (الذي كان ممثلا بدوره في السوفييتات). كانت هذه هي الطريقة الحقيقية التي استعد بها الحزب البلشفي لانتفاضة 1917، ليس من خلال الحديث عنها، بل من خلال التغلغل فعليا داخل صفوف الجماهير ومنظماتها بواسطة تكتيكات وشعارات مرنة تتوافق حقًا مع متطلبات الوضع ومتصلة مع وعي الجماهير، وليس من خلال أفكار مجردة محنطة تم تعلمها عن ظهر قلب من كتب الطبخ الثوري. لقد كان السبب الوحيد لعدم تحقيق ثورة سلمية على الفور في روسيا، كما أوضح لينين وتروتسكي مرارا، هو جبن وخيانة القادة الإصلاحيين داخل السوفييتات.

طالما لم يتمكن الحزب الثوري من كسب الجماهير، وإلى أن يتمكن من ذلك، سيكون من غير المجدي والمضر التأكيد على الحتمية المزعومة للعنف والحرب الأهلية. إن مثل هذا النهج، وعوض أن يعمل على “تثقيف” الكوادر أو إعدادهم للعمل الثوري الجاد (الذي في تلك المرحلة يقوم بالكامل تقريبا على العمل التحضيري الصبور لاكتساب نقاط الدعم بين صفوف العمال والشباب والحركة العمالية)، فإنه يؤدي إلى إرباك الكوادر وإحباطهم وتنفير العمال الذين نحاول كسبهم. لم يكن هذا أبدا نهج المفكرين الماركسيين العظماء في الماضي، بل كان دائما من سمات العصب اليسراوية المتطرفة الموجودة على هامش الحركة العمالية، والتي تعيش في عالم “ثوري” خيالي لا علاقة له بالعالم الحقيقي. في ذلك البيت الدافئ، بعيدا عن الواقع، يمكن لتلك المجموعات الصغيرة أن تضيع الوقت في نقاشات لا تنتهي عن “الانتفاضة” و”تحضير” أنفسهم معنويا لـ”حتمية الحرب الأهلية”، بينما لا ينتبهون نهائيا للمهمة الحقيقية المتمثلة في بناء المنظمة الثورية.

بأي طريقة يستعد التيار الماركسي بشكل ملموس لحسم السلطة؟ من خلال كسب الجماهير. كيف يمكن تحقيق هذه المهمة؟ من خلال وضع برنامج للمطالب الانتقالية التي تنطلق من الوضع الحقيقي للمجتمع والاحتياجات الموضوعية للطبقة العاملة والشباب، وتربط المطالب الفورية بالمطلب المركزي المتمثل في مصادرة ممتلكات الرأسماليين وتغيير المجتمع. إن تسعة أعشار مهمة الثورة تتمثل بالضبط في هذا، كما أوضح لينين وتروتسكي مرات عديدة. ما لم يتم فهم هذه الحقيقة سيبقى كل حديث عن الكفاح المسلح و”الاستعدادات العسكرية”، والحرب الأهلية مجرد ديماغوجية غير مسؤولة.

وكما أشرنا أعلاه، عندما كان البلاشفة أقلية صغيرة داخل السوفييتات، (التي كانت تسيطر عليها بالكامل الأحزاب الإصلاحية، أي المناشفة والاشتراكيون الثوريون، الذين كانوا يسعون من أجل التحالف مع البرجوازية) لم يلعبوا بالانتفاضة، بل شددوا على ضرورة كسب الأغلبية داخل السوفييتات، “إشرح بصبر”. تميل الجماهير إلى البحث عن ما يبدو أنه أسهل الحلول لمشاكلها وأكثرها اقتصادية. ولهذا السبب كان العمال والفلاحون الروس يثقون بالقادة الإصلاحيين، آنذاك كما هو الحال الآن. وهي الحقيقة التي كان على البلاشفة أن يأخذوها نقطة انطلاق لهم. كان لينين يفهم بشكل عميق نفسية الجماهير. وفي 08 يوليوز، كتب:

«ما تزال الجماهير تبحث عن “أسهل” مخرج، من خلال كتلة الكاديت مع كتلة الاشتراكيين الثوريين والمناشفة. لكن لا يوجد أي مخرج»[12].

[1]: LCW, The 7th(April) All-Russia Conference of the RSDLP(B), vol. 24, p. 236. التشديد من عندي

[2]: LCW,A Shameless Lie of the Capitalists, vol. 24, pp. 110-11.

[3]: LCW, Resolution of the CC of the RSDLP(B) Adopted 21 April (4 May), 1917, vol. 24, p. 201.

[4]: LCW,Titbits for the‘Newborn’Government, vol. 24, p. 363.

[5]: LCW, On Slogans, vol. 25, p. 186.

[6]: LCW, ‘On Compromises’, vol. 25, p. 307.

[7]: LCW, ‘The Russian Revolution and Civil War’, vol. 26, p. 36.

[8]: Ibid., p. 37 and p. 38.

[9]: LCW, vol. 21, book I, p. 257 and pp. 263-64.

[10]: L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p. 816, (التشديد من عندي)

[11]: The Case of Leon Trotsky, p. 384.

[12] : LCW, A Disorderly Revolution, vol. 25, p. 129.