البلشفية طريق الثورة الفصل الخامس: سنوات الحرب الليبراليون يبدأون في التحرك

تسببت الكارثة العسكرية في إخراج الليبراليين من حالة الجمود. وبفعل الضغط المتزايد وافق القيصر أخيرا على استدعاء مجلس الدوما، في 19 يوليوز 1915. كانت تلك فرصتهم لنزع مقاليد السلطة من قبضة الزمرة الحاكمة المهزوزة دون ثورة! كان النظام ممزقا بالانشقاقات. تشكلت "الكتلة التقدمية" في أواخر الصيف، عندما كانت روسيا في خضم أزمة عميقة. وقد جمعت بين القوميين المعتدلين والأكتوبريين والكاديت، وكان لها أغلبية واضحة في مجلس الدوما - 241 مقعدا من إجمالي 407. قال سولغين، وهو نائب قومي، عن هذا الوضع: «منذ 1915 نحن القوميون صرنا كاديت تقريبا، لأن الكاديت صاروا قوميين تقريبا». لكنهم لم يحصلوا في مجلس الشيوخ، الأكثر محافظة، إلا على 89 صوتا فقط من إجمالي 196 صوتا. وقد أعلن أول بيان للكتلة أنه: «لا يمكن أن يقود الوطن الأم إلى النصر إلا سلطة قوية وحازمة ونشيطة».

[Source]

المناشفة والترودوفيك -رغم أنهم كانوا رسميا خارج الكتلة- دعموا الليبراليين البرجوازيين. ومرة أخرى حاول تشخيدزه دفع البرجوازية لتولي السلطة بتهديدها بالجماهير. أما النظام القيصري الأوتوقراطي، الذي كان قد قدم بعض التنازلات للبرجوازيين (بإعادة تشكيل بعض الوزارات وتغيير عدد قليل من الجنرالات)، فإنه عاد وتراجع مرة أخرى. لكن كل مناورات القصر هذه، ولعبة تبادل الكراسي المرتبطة بها، لم تعد ذات معنى. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أنه بينما كان كل هذا يحدث، كان القيصر قد دخل، رغما عن إرادة البرجوازية، في اتصالات سرية مع برلين بهدف إبرام سلام أحادي مع ألمانيا. لم يكن هذا صدفة، فقد كان الوضع يزداد خطورة: الأزمة والانقسامات في القمة، والهزائم العسكرية في الجبهة، والإضرابات والمظاهرات والمعارضة البرجوازية في الداخل. حتى نيكولا الغبي صار قادرا على أن يفهم أن الأرض بدأت تهتز تحت قدميه. لم يكن لدى القيصر أي نية في "تقاسم السلطة" مع الليبراليين البرجوازيين، الذين كانوا في ذلك الوقت قد بدأوا يفكرون في إحداث انقلاب داخل القصر لوضع شقيق نيكولا، ميخائيل، على العرش. لكن هذه الخطة، مثلها مثل كل مخططات اللبراليين الأخرى، لم تصل إلى أي نتيجة.

إن البرجوازية، التي كانت تسعى جاهدة للحصول على مكان تحت الشمس وانتزاع الحكم من يد النظام الاستبدادي الفاسد والمفلس، عاشت في خوف من الثورة واستمرت تنظر بقلق إلى "تحركات الغوغاء". اقتبس ليونيل كوشان بعض تعليقات مدير إدارة الشرطة حول أن موجة الإضرابات تسببت في بث الرعب في الكاديت. ولما كانت الحكومة تدرك تمامًا عجز الليبراليين، فقد عاملتهم باحتقار واضح ومستحق. أخبر وزير الشؤون الخارجية، سازونوف، زملائه الوزراء بازدراء أنه إذا تم عرض بعض الفتات على الكاديت فسيسارعون فورا إلى التوصل إلى اتفاق مع الحكومة. وأضاف: «ميليوكوف هو أكبر برجوازي على الإطلاق ويخشى حدوث ثورة اجتماعية أكثر من أي شيء آخر. كما أن غالبية الكاديت يرتجفون خوفا من ضياع استثماراتهم». كان على سازونوف أن يخاف بدوره على استثماراته...

«حدد شولجين هدف الكتلة بعبارات واضحة، حيث قال إنها: محاولة تهدئة الجماهير».

شرح ف. أ. ملاكوف بشكل بارع معضلة الكاديت -التي هي وعيهم بضرورة التحرك، مع خوفهم من التحرك- في مقال عنوانه "الموقف المأساوي". حيث قارن روسيا بسيارة عهد بها إلى سائق عاجز إلى درجة أنه سيودي بالسيارة إلى كارثة حتمية، بينما الركاب القادرين على القيادة لا يجرؤن على ذلك. لا يمكن ترك السيارة بدون سائق ولو لثانية واحدة وإلا فإنها ستسقط في الهاوية. السائق يعرف ذلك لكنه يكتفي باستعمال المنبه وسعيد بعجز الركاب.

«وهكذا فإن الكتلة التي ترتجف خوفا، تعترف في السر بخلافاتها مع القيصر، وتقضي وقتها في مناقشات لا تؤدي إلى اتخاذ أي إجراء. ومثلها مثل أوبلوموف، تستمر في النقاش، حول اليأس المتزايد في البلاد والخوف من الثورة والحاجة إلى 11 مارس أخرى وأزمة السكك الحديدية وأزمة الوقود... وبالعودة إلى الوراء يتذكر ميليوكوف خريف عام 1915 بأنه كان "اللحظة بالضبط" التي صارت الثورة فيها حتمية».[1]

طرح الجناح اليساري للكاديت وكيرنسكي اقتراح تشكيل حكومة برلمانية مسؤولة أمام مجلس الدوما. دعم المناشفة هذا الاقتراح، لكن ميليوكوف، زعيم الكاديت والقيادي البارز داخل الكتلة، لم يوافق على ذلك. تراجع الكاديت إلى الوراء لصياغة مقترحات تكون مقبولة لدى القيصر. لكن كل تلك التنازلات كانت بدون جدوى. كان لزوجة القيصر وعصابة راسبوتين تأثير على نيكولا أكبر بكثير من تأثير "المعتدلين". قالت الملكة لزوجها الضعيف: «أظهر قبضتك، أنت الحاكم المطلق وعليهم ألا يجرؤوا على نسيان هذا».[2] وقد تصرف نيكولا وفقا لذلك. ففي 03 شتنبر أمر بحل مجلس الدوما حتى نوفمبر، وبدأ في طرد الوزراء الذين رأى أنهم غير جديرين بالثقة. وفي بداية أكتوبر استبدل وزير الداخلية بالوكالة، شرباتوف، وعوضه بالرجعي اليكسي ن. خفوستوف. وعن ذلك كتب كيرنسكي بمرارة قائلا:

«وهكذا قامت الملكة، التي تشارك القيصر في الحكم، بإشعار الأمة بأكملها بأنه لن يكون هناك مزيد من التردد في الدفاع عن مبادئ النظام الاستبدادي الروسي العريقة. لقد تم سحق كل آمال التوصل إلى اتفاق مع التاج، وهو الأمر الذي أدركه قادة الكتلة التقدمية الآن. ماذا عليهم أن يفعلوا الآن؟».[3]

ماذا يمكنهم أن يفعلوا؟ كانت الطريقة الوحيدة لإسقاط النظام هي تعبئة الجماهير لشن هجوم مباشر. لكن مجرد التفكير في ذلك كان يصيب هؤلاء السادة بالرعب. رد العمال على حل مجلس الدوما بإضراب عام احتجاجي. لكن شعارهم لم يكن "إعادة الدوما"، بل "فلتسقط الحكومة". كان من المفترض أن يستمر الإضراب لمدة ثلاثة أيام، لكن عندما أصدر الجنرال فرولوف أمرا بمثول المضربين أمام المحكمة العسكرية وغيرها من الإجراءات، قررت لجنة بيترسبورغ تمديد الإضراب ليوم واحد إضافي لإثبات أن العمال لم ينهوا الإضراب امتثالا لأوامر الجنرال. عارض التصفويون ذلك وعاد مؤيدوهم إلى العمل؛ بينما عاد العمال البلاشفة إلى العمل بعد مرور يوم آخر، كما تقرر. وإجمالا فقد أضرب 150 ألف شخص في بيترسبورغ، و25 ألف شخص في نيجني نوفغورود (حيث اضربوا ليوم واحد فقط)؛ كانت هناك إضرابات كبيرة أيضا في موسكو وخاركوف وإيكاتيرينوسلاف. وقد أفادت صحيفة سوتسيال ديموكرات أنه «بعد هذه الإضرابات انخرط الليبراليون في حملة "تهدئة"، لكن العمال لم يكونوا مستعدين لأي تهدئة على الإطلاق. فقد أدى القمع الذي مورس ضدهم والارتفاع المذهل للتضخم، وما إلى ذلك، إلى اشتداد المزاج الثوري بينهم».[4]

لقد كان ذلك الإضراب بمثابة إشعار بأن البروليتاريا قد تعافت من النكسات السابقة وعادت إلى التحرك مجددا. ملأ هذا الاحتمال نفوس الليبراليين بالفزع. إذ من الأفضل لهم أن يعيشوا الإذلال تحت الحكم الاستبدادي من أن تندلع ثورة شبيهة بما حدث سنة 1905! كان خوف اللبراليين من الجماهير يعني أنه لن يكون هناك أي رد من جانبهم على هجمات القيصر. أرسل اللبراليون وفدا، بزعامة الأمير لفوف، ليلتمس من القيصر "وضع عبء السلطة الثقيل على أكتاف أناس تعززت قوتهم بثقة الأمة فيهم". لكن نيكولا رفض استقبالهم. وبدلا من ذلك تم استدعائهم إلى وزارة الداخلية حيث قيل لهم إن "تدخلهم في سياسة الدولة" وقاحة.

حل مجلس الدوما فضح بقسوة عجز الليبراليين. وسيطر نظام رومانوف- راسبوتين على السلطة بقوة. بينما صار الليبراليون يائسين. قال أحد قادة الكاديت لزملائه، في خريف عام 1916:

«أخاف من أن سياسة الحكومة ستؤدي إلى وضع سيصير فيه مجلس الدوما عاجزا عن فعل أي شيء لتهدئة الجماهير».

عندما أعيد فتح مجلس الدوما، في 01 نوفمبر، كان في مقدور حتى المعتدل ميليوكوف أن يفهم أخيرا أن وقت التعاون مع الحكومة قد بدأ ينفذ. وقد شن في كلمته الافتتاحية أمام مجلس الدوما هجوما على مختلف أشكال شطط الحكومة في استعمال السلطة، وفي النهاية طرح السؤال التالي: "هل هذه حماقة أم خيانة؟". لم تكن لدى مليوكوف، بالطبع، أية نية في إثارة الثورة، بل كان يريد فقط تخويف النظام الاستبدادي لكي يعمل على تقديم تنازلات من أجل إنقاذ نفسه. لكن في تلك الأجواء المشحونة، كان لكلماته تأثير مختلف تماما، عكس ما كان يريده. وبما أن القانون كان يحظر نشر الخطاب، فقد تم نسخه وتوزيعه بوسائل غير قانونية. وقد استفاد العمال من محتوياته للتنديد بالنظام الاستبدادي ووزرائه وجميع ممارساته.

«لقد اكتسب خطابي سمعة التحريض على الثورة»، هذا ما قاله مليوكوف المرتبك فيما بعد. وأضاف: «لم تكن تلك نيتي. لكن المزاج السائد في البلاد كان بمثابة مكبر الصوت لكلماتي».[5]

1 : L. Kochan, Russia in Revolution, p. 184, p. 185 and p. 186.

2 : O. Figes, A People’s Tragedy: The Russian Revolution 1891-1924, p. 276.

3 : A. Kerensky, The Kerensky Memoirs: Russia and History’s Turning Point, p. 142.

4 : John Riddel : Lenin’s Struggle for a Revolutionary International

5 : O. Figes, A People’s Tragedy: The Russian Revolution 1891-1924, p. 285 and p. 287.