البلشفية طريق الثورة: الفصل الخامس: سنوات الحرب - تفكك الحزب

«خمد صوت الحركة الثورية بمجرد ما بدأت طبول الحرب تقرع. تم إرسال الفئات الأكثر نشاطا من بين العمال إلى التجنيد. وانتزعت العناصر الثورية من المصانع وألقي بها إلى جبهات القتال. كما تم فرض عقوبات صارمة على الإضراب وتم قمع الصحافة العمالية، وخنق النقابات العمالية. تدفق مئات الآلاف من النساء والأطفال والفلاحين إلى ورشات العمل. تسببت الحرب -إضافة إلى تحطم الأممية- في خلق تيهان سياسي كبير بين العمال، ومكنت أصحاب المصانع، الذين رفعوا رؤوسهم آنذاك، من استعمال خطابات وطنية وجرفوا معهم قسما كبيرا من العمال، وأجبروا العمال الأكثر جرأة وحزما على اتخاذ موقف التحفظ والانتظار. بقيت الأفكار الثورية موجودة بالكاد في حلقات صغيرة وصامتة. في المصانع في تلك الأيام لم يكن أحد يجرؤ على وصف نفسه بأنه "بلشفي"، وذلك ليس فقط خوفا من الاعتقال، بل أيضا من أن يتعرض للضرب على يد الفئات المتخلفة من العمال» .

[Source]

بمجرد ما أعلنت الحرب بدأ النظام في شن حملة قمعية شرسة. مرة أخرى عانى البلاشفة من وطأة القمع، وخلال الأشهر الأولى من الحرب أدت الاعتقالات إلى تفكك الحزب. لقد عانى الحزب بين عشية وضحاها تقريبا من تحول جد مفاجئ وقاس. اعتقل آلاف البلاشفة وأرسلوا إلى السجن والمنافي وتعرضت العديد من الفروع للتحطيم، واختفت هياكل الحزب. تم قطع الروابط مع المراكز القيادية. في سان بيترسبورغ وحدها تم اعتقال أكثر من ألف عضو في الحزب والنقابة بسبب مشاركتهم في الإضراب العام شهر يوليوز. كما تسببت الموجة الأولى من التجنيد في القضاء على عدد كبير من مناضلي الحزب، وخاصة الشباب. كان حضر البرافدا بمثابة الضوء الأخضر لحملة قمع شرسة ضد كل الصحافة اليسارية والتقدمية. تم إرسال معظم أعضاء اللجنة المركزية إلى سيبيريا. وكان العديد من القادة في المنافي. عند اندلاع الحرب وجد لينين نفسه محاصرا في الجزء النمساوي لبولندا، ولكي يتجنب اعتقاله من طرف السلطات النمساوية فر إلى برن في سويسرا، حيث بقي حتى اندلاع ثورة فبراير. لكن الثورة في تلك الأيام المظلمة من عام 1915 بدت وكأنها حدث مؤجل إلى مستقبل بعيد جدا. ومن هناك شرع في المهمة الصعبة المتمثلة في إعادة تجميع قوى الحزب الممزقة، والتي كان معظمها في المهجر، وركز قبل كل شيء على إعادة التسليح الإيديولوجي للكوادر على أساس الموقف من الحرب والثورة والأممية.

لكن ما جعل الضربة أكثر إيلاما هو الانهيار غير المتوقع للأممية. لقد خلفت خيانة قادة الأممية الاشتراكية آثارا مدمرة على المعنويات. وعلاوة على ذلك فإن عزلة القادة المنفيين كانت قد صارت أكثر فظاعة من أي وقت آخر. ففي ظل ظروف الحرب تسبب إغلاق الحدود بين البلدان في استحالة وصول أي خبر من روسيا لعدة أشهر. كان لهذا عدة عواقب، فقد بقيت قيادة الحزب في الخارج معزولة تماما عما يجري في الداخل حتى شهر شتنبر، بل حتى بعد ذلك بقي التواصل شبه مستحيل. لقد حرمت الرقابة، وغيرها من إجراءات الحرب، قوات الحزب الصغيرة التي بقيت تعمل داخل روسيا من أي معلومات. قال باداييف إن الظروف كانت أسوأ بكثير مما كانت عليه خلال أسوأ فترات الردة الرجعية. كانت الهزيمة تبدو كاملة لأسباب ليس من الصعب فهمها. ففي بداية أي حرب تكون هناك دائما تقريبا موجة من التسمم بالنزعة الوطنية التي تكتسح الناس وتجرف أمامها ليس البرجوازية الصغيرة فحسب، بل أيضا الفئات المتخلفة من الطبقة العاملة، فتجد الطليعة المتقدمة نفسها معزولة مؤقتا.

بعد انتقالهما إلى برن، حيث انضم إليهما زينوفييف، بدأ لينين وكروبسكايا المهمة الصعبة لإعادة تنظيم العمل. كانت المشكلة الرئيسية، بصرف النظر عن النقص الدائم في الأموال، هي العزلة. ظهر بيان لينين "الحرب والاشتراكية الديمقراطية الروسية" في العدد 33 من جريدة سوتسيال ديموكرات التي كان مجموع مبيعاتها 1500 نسخة. ومع ذلك فإن هذا الرقم لا يعطي فكرة حقيقية عن الأرقام الحقيقية التي كان لينين يأمل في الوصول إليها بأفكاره في ذلك الوقت. كان عدد قليل فقط من الجرائد يصل إلى روسيا آنذاك. وكانت الاتصالات مع الداخل قد صارت منعدمة تقريبا. بعد يوليوز 1914، كانت جميع الاتصالات بين روسيا والغرب تتم عبر الحدود السويدية الفنلندية الصعبة. وفي شتنبر، تمكن النائب البلشفي في الدوما، ف. ن. سامويلوف، الذي عاد إلى روسيا بعد رحلة علاج في مصحة سويسرية في بداية الحرب، من أن يجلب معه إلى روسيا نسخة من موضوعات لينين السبع. لقد أعطى الأمل في تجديد الاتصال مع لينين دفعة إيجابية لمعنويات مناضلي الحزب، الذين كانوا قد بدأوا يتعافون تدريجيا من الضربات التي تعرضوا لها منذ يوليوز.

هوامش:

1: L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, pp. 58-59.