سنة 2018: العالم رأسا على عقب

رحب دونالد ترامب بالسنة الجديدة بطريقته الفذة: محاطا بعشيرته الاجتماعية والسياسية في محيط نادي مار آلاغو (Mar-a-Lago) الفخم في فلوريدا، يرافقه جمع يمثل كل شرائح المجتمع الأمريكي، من نجوم السينما إلى أصحاب الملايير.

"سنة 2018 ستكون سنة رائعة"، كما أكد ترامب لضيوفه، وهو يدخل قاعة الرقص المذهبة في مار آلاغو، مصحوبا بالسيدة الأولى المبتسمة دوما، ميلانيا ترامب، وابنه الشبيه بدمية الخياط بارون ترامب، وتوقع أن سوق الأسهم سوف تستمر في الارتفاع، وسوف تأتي الشركات إلى الولايات المتحدة "بخطى حثيثة".

كان لكل هذه الكلمات وقع الموسيقى في آذان ضيوفه الأثرياء، الذين يسيل لعابهم بفعل الأرباح الهائلة والتخفيضات الضريبية التي وعدهم بها بطلهم بسخاء كبير. كان حقا مشهدا لا ينسى ويناسب تماما فيلم "العراب".

 

عام 2017

 

لكن قبل أن نرحب بولادة السنة الجديدة، علينا أولا أن ندفن السنة القديمة، بعد إجراء تشريح دقيق على جثتها. وفي هذا الصدد قال بريان كلاس، أستاذ السياسة المقارنة بكلية لندن للاقتصاد، في الحوار الذي أجرته معه شبكة CNBC، في يناير من العام الماضي: «أعتقد أن هذا العام هو على الأرجح أكبر عام للمخاطر السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية».

لم يكن مخطئا في ما قاله. لنفكر ولو للحظة في الاضطرابات التي حدثت خلال الأشهر الاثنا عشر الماضية. لقد شهدت السنة التي انقضت للتو سلسلة أخرى من الزلازل السياسية، وعلى الرغم من تبجح الساكن الجديد للبيت الأبيض، فمن غير المحتمل أن يكون عام 2018 عاما سهلا للرأسمالية العالمية.

كان تروتسكي قد وصف النظرية بأنها تفوق التبصر على الدهشة. لكن عام 2017 شهد قدرا كبيرا من الدهشة، حتى بين صفوف من يسمون بالخبراء البرجوازيين. من كان في مقدوره قبل 12 شهرا أن يتوقع أن المحافظين البريطانيين سيسجلون تلك الحصيلة السيئة في الانتخابات العامة، التي دخلوها وهم يتمتعون بفارق 20 نقطة عن حزب العمال؛ وأن ينهي المرشح "الضعيف الحظوظ" جيريمي كوربين هذا العام باعتباره السياسي الأكثر شعبية في بريطانيا؟

من كان يعتقد أنه بحلول نهاية العام، سيخوض قادة الحملة الكاتالونية من أجل الاستقلال الانتخابات وهم قابعون في سجن إسباني، وأن رئيس الحكومة الكاتالونية سيكون منفيا سياسيا في بروكسل؟

من كان يتوقع أن الحزبين الرئيسيين في فرنسا لن يكونا حتى مشاركين في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية؟ ومن كان يعتقد أن الجمهوريين الأمريكيين سيفقدون الانتخابات في ولاية ألاباما: التي هي معقل آمن للجناح اليميني الديني المحافظ؟

من كان يظن أن موغابي سوف يلقى في مطرح الخردة بعد عقود من الحكم الديكتاتوري، وأن جاكوب زوما سيفقد السيطرة على حزب المؤتمر الوطني الأفريقي؟

ليست هذه سوى بعض الزلازل السياسية التي هزت العالم خلال 12 شهرا فقط. وهي أحداث ذات أهمية كبيرة في حد ذاتها. لكنها، من وجهة النظر الماركسية، أعراض للأزمة العامة للرأسمالية العالمية، التي تجد تعبيرها في عدم الاستقرار السياسي في كل مكان، بما في ذلك أقوى بلد رأسمالي: الولايات المتحدة.

 

تشاؤم البرجوازية

 

كثيرا ما يصل منظرو الرأسمالية الجديون إلى نفس الاستنتاجات التي يخلص إليها الماركسيون، على الرغم من أنهم يقومون بذلك طبعا من موقعهم الطبقي. والصورة الوردية التي رسمها السيد ترامب لا يتقاسمها معه أي محلل برجوازي جاد، بل العكس تماما هو الصحيح.

تحذر مجموعة أوراسيا، وهي شركة استشارية محترمة تقدم المشورة للرأسماليين بشأن المخاطر المحتملة على النطاق العالمي، في تقييمها السنوي المنشور مؤخرا لأهم المخاطر الجيوسياسية، من أن العالم يتحرك نحو الأزمة ونحو حالة من "الكساد الجيو- سياسي" وأن حكومة دونالد ترامب تسهم هي نفسها في الاضطراب: من خلال مفاقمة الانقسامات على الصعيدين الوطني والدولي، وتفكيك النظام العالمي الذي تم بناؤه بجهود مريرة على مدى عقود من الزمن.

وتعرب مجموعة أوراسيا عن خوفها من أن الديمقراطيات الليبرالية (أي البرجوازية) تعاني من "افتقار للشرعية لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية"، وأن القادة غير ملمين بالواقع، وأن هذا الانهيار السياسي يخلق الظروف التي سيكون فيها لأي حدث كبير أثر مدمر على الاقتصاد العالمي والسوق العالمي.

ويبدأ التقرير بعبارة يمكن اعتبارها ردا على تقييم السيد ترامب المتفائل للاقتصاد (باستثناء أنه كتب قبل حفلة رأس السنة الميلادية): «نعم، الأسواق آخذة في النمو والاقتصاد ليس سيئا، لكن المواطنين منقسمون. الحكومات لا تفعل الكثير في مجال الحكامة. والنظام العالمي يتفكك».

وجاء استنتاجها على طرف النقيض مع استنتاج رجل البيت الأبيض: «خلال السنوات العشرين منذ أن أطلقنا مجموعة أوراسيا، كانت البيئة العالمية تشهد الصعود والهبوط. لكن إذا كان علينا أن نختار سنة واحدة لأزمة كبيرة غير متوقعة، مشابهة من الناحية الجيو- سياسية للانهيار المالي لعام 2008، فستكون على ما يبدو 2018».

 

دور ترامب

 

بدأ عام 2017 بتولي دونالد ترامب للسلطة في 20 يناير. كان ذلك في حد ذاته صدمة سياسية ذات أبعاد هائلة. من غير الصحيح، بطبيعة الحال، أن نعزو جميع علل العالم إلى رجل واحد. لو كان ذلك صحيحا لكان حل الأزمة الحالية سيكون بسيطا في الواقع وهو: التخلص من ترامب واستبداله برئيس "أكثر مسؤولية" (أي رئيس ديمقراطي). لكن ليس هناك أي شيء يدعو للاعتقاد بأن الوضع سيكون أفضل بكثير في ظل هيلاري كلينتون أو أي من أبطال "الوسط" الآخرين.

إن محاولة شرح السيرورات التاريخية العظيمة بالعوامل الفردية ابتذال للتاريخ لا يصمد ولو أمام النظرة الأكثر سطحية. تبحث الماركسية عن المحركات الرئيسية للتاريخ الإنساني في السيرورات الأعمق التي توجد تحت السطح وتشكل الإطار الأساسي الذي داخله تقوم القوى الإنسانية الفاعلة بأدوارها. لكن هذا التحليل الأساسي، وعلى الرغم من أنه حاسم في نهاية المطاف، فإنه لا يستنفد المسألة بأي حال من الأحوال.

إذا كانت محاولة تفسير التاريخ بالعوامل الفردية موقف مبتذل جدا بحيث لا يمكن أخذه على محمل الجد، فإن محاولة إنكار دور الأفراد في التاريخ هي كذلك موقف تبسيطي وخاطئ. يوضح ماركس أن الرجال والنساء يصنعون تاريخهم الخاص، على الرغم من أنهم لا يصنعونه بحرية كاملة، كما أنهم مقيدون بعوامل موضوعية خارجة عن إرادتهم وحتى غير مرئية لهم. وبممارساتهم يمكن أن يكون للفاعلين الأفراد تأثير كبير على الظروف، مما يؤثر على نتائج الأحداث بطريقة أو بأخرى.

ودونالد ترامب مثال مثير للاهتمام عن هذه الظاهرة. لم تكن الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة سعيدة بوصول ترامب إلى السلطة. وهي ما زالت غير راضية، وتحاول التخلص منه. هناك أسباب عديدة لذلك. لأكثر من 100 سنة كانت الحياة السياسية للولايات المتحدة الأمريكية تقوم على ركيزتين أساسيتين: الجمهوريين والديمقراطيين. وكان استقرار النظام يعتمد على هذا التوازن.

ترامب ملياردير، لكنه أيضا شخص مريض بجنون العظمة وديماغوجي ماهر. ومن المفارقات أن ترامب توجه بحملته على وجه التحديد نحو أفقر الفئات. لقد تحدث كثيرا عن الطبقة العاملة، وهو أمر لم يسمع عنه من قبل في الحملات الانتخابية الأمريكية. كان كل ذلك كذبا بطبيعة الحال، لكنه عندما تحدث عن المصانع والمناجم المغلقة أثار آمالا في أذهان الناس اليائسين. لقد دق ذلك الخطاب على وتر الملايين من الأميركيين الساخطين على النظام الذي يحكم عليهم بالفقر والبطالة.

ليس ترامب في الواقع سوى ممثل آخر من ممثلي البرجوازية الكبرى، بل إنه، في الواقع، الوجه الحقيقي الخام والقبيح للرأسمالية، في حين أن ما يسمى بالوسط هو الرأسمالية التي تحاول إخفاء جوهرها وراء قناع مبتسم. لقد قام ترامب بإزالة القناع، وهذا هو السبب الذي يدفع الإدارة إلى الحقد عليه.

تتساءل الإدارة عما إذا كانت تستطيع السيطرة على هذا الملياردير الجامح الذي لم تكن تريده أن يفوز، لكنها لم تتمكن من منعه. لم يكن عليهم أن يتساءلوا لفترة طويلة، فالرئيس الاميركي الخامس والأربعين قد سارع إلى وضع بصمته. كان قد شن حملته بالتعهد "بفعل الأشياء بشكل مختلف". وقد كان وفيا لكلمته.

لقد نجح في مفاقمة جميع التناقضات على نطاق عالمي: بين أمريكا والصين، وبين أمريكا وأوروبا وبين أمريكا وكندا والمكسيك. وزاد من إشعال الصراع بين اسرائيل والفلسطينيين وخلق مناخا محموما مع كوريا الشمالية التي حولت كوريا الجنوبية واليابان الى أهداف للترسانة النووية للـ "رجل الصاروخ" في بيونج يانج.

مغامرات ترامب في مجال الشؤون الخارجية هي بالتأكيد مغامرات غير مسبوقة في تاريخ الدبلوماسية العالمية. إنه لا يشبه ثورا في متجر للخزف الصيني بل يشبه الفيل. يقدم التدفق المتواصل لتغريداته الفاحشة موسيقى خلفية صاخبة لمشهد سياسته الخارجية الفوضوية والصاخبة والمتناقضة، التي غالبا ما تكون غير مفهومة، والتي صدمت وأفزعت قطاعات كبيرة داخل الإدارة في الداخل والخارج.

ليست عقيدة "أمريكا أولا" سوى نسخة جديدة من السياسة الانعزالية القديمة التي كانت دائما جزءا من التقاليد السياسية الأمريكية. لكن أقرب حلفاء أميركا يشعرون بالقلق من أنه عندما يعد بأن يجعل "أمريكا عظيمة مجددا"، فهو يعني أنه سيجعلها عظيمة على حسابهم. وهم محقون في ذلك. إذا كانت هناك في السابق شقوق رفيعة في صفوف ما يسمى بالتحالف الغربي، فإن تلك الشقوق قد اتسعت الآن إلى شرخ واسع.

حذر رئيس مجموعة أوراسيا، ايان بريمر، وكليف كوبشان من أن القوة العالمية للولايات المتحدة "تسير نحو نهايتها" وأن فلسفة ترامب القائمة على الانكماش والأحادية تزرع الارتباك بين الحلفاء وبين الخصوم. تقول مجموعة أوراسيا: «"أمريكا أولا" والسياسات التي تنتج عنها قد أضعفت النظام الذي تقوده الولايات المتحدة، في حين لا يوجد بلد آخر أو مجموعة أخرى من البلدان على استعداد لإعادة بنائه أو مهتمة بذلك... مما يزيد بشكل كبير من المخاطر العالمية». هذا ملخص دقيق للوضع.

 

التجذر داخل الولايات المتحدة الأمريكية

 

إنها إنجازات مذهلة حقا بالنسبة لمدة 12 شهرا فقط قضاها داخل البيت الأبيض. إن الفوضى التي يخلقها ترامب على المسرح العالمي كافية تماما لتسبب مخاوف جدية داخل الإدارة الأمريكية والنظام الدولي. لكن هناك سبب آخر يجعل الطبقة الحاكمة غير متحمسة بشأن دونالد ترامب. تعلمنا الميكانيكا الابتدائية أن كل فعل له رد فعل مساو له في الشدة ومعاكس له في الاتجاه. خطوط الصدع في المجتمع والسياسة الأمريكيين كانت موجودة بالفعل، لم يكن السيد ترامب هو من خلقها. لكنه من خلال أقواله وأفعاله قد تسبب في مفاقمة الانقسامات الحادة داخل المجتمع الأمريكي وأثار زيادة ملحوظة في التجذر.

كان وصول ترامب إلى البيت الأبيض إشارة لاندلاع موجة غير مسبوقة من المظاهرات الجماهيرية في جميع أنحاء البلاد. وربما كانت مسيرات النساء أكبر يوم للاحتجاج في تاريخ الولايات المتحدة، حين خرج ما بين 3.3 مليون و4.6 مليون شخص في شوارع لوس انجلس وواشنطن العاصمة ونيويورك وشيكاغو وسياتل والبلدات والمدن الامريكية الاخرى. كان ذلك استباقا للأحداث القادمة.

وانتهت السنة بهزيمة كبيرة للجمهوريين في ولاية ألاباما: التي كانت قلعة محافظة وجمهورية قوية فاز فيها ترامب بهامش 30٪ في الانتخابات الرئاسية. كان ذلك زلزالا سياسيا آخر، لم يتوقعه "الخبراء" أو استطلاعات الرأي.

من السابق لأوانه أن نعرف حتى متى يمكن لترامب أن يصمد. أكبر مصدر لقوته هو إفلاس الديمقراطيين والتأخر في اندلاع حركة كبيرة للطبقة العاملة. يمكن للإدارة الحالية أن تستمر على الرغم من الانقسام الكبير غير المسبوق في صفوف الطبقة الحاكمة. متى سبق لنا أن رأينا في الماضي نزاعا علنيا بين الرئيس الأمريكي وبين وسائل الإعلام ومكتب التحقيقات الفدرالي (اف بي آي) ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) وجهاز المخابرات الأمريكي بأكمله؟

لكن وعلى الرغم من التنبؤات الواثقة التي أطلقها السيد ترامب، فإن عام 2018 سيشهد الكثير من الانقسامات من هذا النوع، والتي هي في الجوهر انعكاس للاضطراب العام الذي هو سمة أساسية من سمات المرحلة الحالية للأزمة الرأسمالية العالمية.

 

فرنسا وبريطانيا

 

ليس من الصعب بالنسبة للماركسيين فهم معنى هذه الاضطرابات السياسية. إن أزمة الرأسمالية تعبر عن نفسها من خلال حالة عدم استقرار عامة: اقتصادية واجتماعية وسياسية. بعد عشر سنوات على الانهيار المالي في عام 2008، ما تزال البرجوازية بعيدة جدا عن حل الأزمة الاقتصادية. ولم تؤد كل محاولات الحكومات لاستعادة التوازن الاقتصادي إلا إلى تدمير التوازن الاجتماعي والسياسي.

نرى ذلك في جميع البلدان الواحد منها تلو الآخر. كل من ترامب و بيرني ساندرز، على الرغم من اختلافهما الكبير، تعبير عن نفس الظاهرة. وكذلك جيريمي كوربين [في بريطانيا] وميلينشون في فرنسا وسيريزا في اليونان وبوديموس في اسبانيا. كلهم تعبير عن السخط العام والغضب والإحباط الذي يتفاقم تحت سطح المجتمع. وهو ما يسبب رعبا كبيرا في صفوف البرجوازية ومنظريها.

يؤدي تصاعد "الشعور المعادي للمؤسسات الرسمية" إلى تآكل الثقة في المؤسسات السياسية في البلدان الديمقراطية، فضلا عن وسائل الإعلام والنظام الانتخابي في الولايات المتحدة. ويمكن أن يؤدي ضعف هذه المؤسسات إلى عدم الاستقرار والاستبداد وسياسات وصراعات لا يمكن التنبؤ بها.

إن ما نراه في الولايات المتحدة الأمريكية وفي كل مكان آخر هو انهيار الوسط. وبطبيعة الحال فإن تلك المجموعة الصغيرة من النخب غير المنتخبة والتي تسيطر على السلطة ليست سعيدة بهذا الوضع. وهم يرون بشكل صحيح في الاستقطاب المتنامي نحو اليسار ونحو اليمين على أنه تهديد لمصالحهم.

ولذلك كانوا سعيدين جدا عندما فاز، في شهر ماي الماضي، مرشح "الوسط" النكرة إمانويل ماكرون على مارين لوبان ليصبح أصغر رئيس لفرنسا. لم يصل أي من الأحزاب التقليدية إلى الدور الثاني. وقد خلقت وسائل الإعلام الكثير من الضوضاء حول هذا الموضوع، وزعموا أن ماكرون فاز بأغلبية مطلقة. هذا ليس صحيحا. لقد كانت الأغلبية المطلقة في الواقع هي هؤلاء 70% من الناس الذين لم يصوتوا له. كما لم تسلط وسائل الإعلام الضوء على حقيقة أن السياسي الأكثر شعبية في فرنسا هو اليساري جان لوك ميلينشون.

في الواقع إن الوسط السياسي مجرد وهم. إن المجتمع ينقسم بشكل متزايد بين مجموعة صغيرة من الناس الذين يسيطرون على النظام وبين الغالبية الساحقة الذين يزدادون فقرا وهم في تمرد مفتوح ضد النظام القائم. "السير في الوسط" كانت فكرة توني بلير (مؤسس "حزب العمال الجديد" ورئيس الوزراء البريطاني ما بين 1997 و2007).

إن الفكرة بسيطة وطفولية: محاولة التوصل إلى اتفاق بين الأحزاب التي تعبر عن مختلف الطبقات. لكن هناك مشكلة صغيرة، وهي أن هذا الاتفاق مستحيل، لأن مصالح هذه الطبقات متناقضة تماما، ولا يمكن التوفيق بينها في الواقع. يمكن لهذا التناقض أن يختفي مؤقتا في فترات الازدهار الاقتصادي، لكنه يصبح واضحا بشكل جلي في ظل الأوضاع المشابهة لهذه التي نعيشها اليوم، أي عندما تكون الرأسمالية غارقة في أزمة عميقة.

كان التصويت على انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في شهر يونيو 2016، قفزة بريطانيا في الظلام. كان ذلك زلزالا سياسيا آخر، ليست نتائجه إلا في بدايتها الآن. وفى محاولة يائسة منها لتعزيز موقف بريطانيا الضعيف في التفاوض، دعت تيريزا ماي، في الربيع الماضي، إلى اجراء انتخابات مبكرة. اتخذ ذلك القرار على افتراض (كان الجميع يؤمن به) أن المحافظين لا يمكنهم أن يخسروا.

قالت استطلاعات الرأي إن المحافظين يتصدرون بـ 20 نقطة على حزب العمال. كانت وسائل الاعلام بكاملها قد أجمعت على أن حزب العمال، بقيادة اليساري جيريمي كوربين، لن يتمكن من الفوز في أي انتخابات. ودعونا نتذكر بأن الجناح اليميني داخل حزب العمال، الذي لديه أغلبية ساحقة بين الفريق البرلماني للحزب، حاول التخلص من كوربين بكل وسيلة ممكنة على مدى العامين الماضيين، بدعم من وسائل الإعلام التي نظمت حملة غير مسبوقة من التشهير ضده.

لقد فشلت جهودهم. لكنهم كانوا يستعدون مرة أخرى للإطاحة به حالما يتم الإعلان عن هزيمة حزب العمال، وهي الهزيمة التي كانوا يرغبون فيها بشدة ويتوقعونها بثقة. لكن وأمام دهشة الجميع، خاض حزب العمال الانتخابات على أساس برنامج يساري وحقق فوزا مهما. فقد حزب المحافظين اغلبيته البرلمانية وأصبح جيريمي كوربين، الذي كانوا يزعمون أنه "غير صالح لكي ينتخب"، السياسي الأكثر شعبية في بريطانيا.

منذ وقت ليس ببعيد كانت بريطانيا واحدة من أكثر البلدان استقرارا في أوروبا، أما الآن فهي واحدة من أكثر البلدان اضطرابا. كانت نتيجة استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والغليان في اسكتلندا أعراض استياء عميق، كان موجودا لكنه لم يجد أي وسيلة للتعبير عن نفسه. وقد وجد هذا السخط الجماهيري في شخص جيريمي كوربين التعبير السياسي عنه، مما خلق ميلا قويا نحو اليسار يوفر فرصا كبيرة للتيار الماركسي البريطاني الذي كان وحده من فهم هذه الظاهرة التي استمرت تنفيها كل تلك العصب التي تنسب نفسها زورا إلى تروتسكي.

 

كاتالونيا

 

إن أزمة كاتالونيا انعكاس للمأزق الذي تعيش فيه الرأسمالية الإسبانية ونتيجة لخيانة الستالينيين والإصلاحيين التي أدت إلى إجهاض دستور عام 1978. لقد مكنت تلك الخيانة الطبقة الحاكمة الإسبانية الفاسدة من الحفاظ على أجزاء مهمة من نظام فرانكو القديم خلف واجهة "ديمقراطية".

والآن، بعد 40 عاما، ها هي الدجاجات قد عادت إلى خمها لتضع البيض. لقد خبر شعب كاتالونيا حقيقة الديمقراطية الإسبانية عندما سقطت هراوات الشرطة على رؤوس المواطنين العزل -رجالا ونساء، صغارا وكبارا- والذين كانت "جريمتهم" الوحيدة هي رغبتهم في التصويت على مستقبل بلدهم.

لقد بذل زعماء هذه الحركة قصارى جهدهم لإقناع حكومة راخوي اليمينية في مدريد بأنهم بطبيعة الحال ليسوا جادين على الإطلاق بشأن الاستقلال. لقد أعلنوا "استقلال كاتالونيا"، لكنهم أعلنوا أيضا أنه "لن ينفذ". كانوا يتصرفون مثل جنرالات يحشدون جيشهم ويضعونه على أهبة الحرب، ويثيرون العدو إلى التحرك، وبعد ذلك يلوحون بالعلم الأبيض. لا يمكن تصور طريقة أفضل من تلك لإضعاف معنويات القوات.

لكن إذا تصور القادة الكاتالونيون أن هذه المناورة ستخلصهم من غضب أعدائهم فقد كانوا مخطئين بشكل مثير للرثاء. إن الضعف يستدعي العدوان. اعتقلت قوات مدريد القادة الرئيسيين لحركة الاستقلال الذين وجدوا أنفسهم في السجن بتهمة التخطيط للتمرد، وتم تعليق سلطات الحكومة الكاتالونية، وفرض حكم مباشر لسحق حركة الاستقلال، بينما فر رئيس كاتالونيا كارلوس بودجيمون إلى المنفى في بلجيكا.

توهم القوميون البورجوازيون الكاتالونيون بغباء أنهم سيحصلون على دعم الاتحاد الأوروبي، لكنهم سرعان ما تعافوا من هذا الوهم. وقد أبلغتهما بروكسل وبرلين بأشد العبارات وضوحا بأن أوروبا لن تعترف بدولة كاتالونية مستقلة.

لكن إذا اعتقد الحزب الشعبي الحاكم بأنه يمكنه أن يحل المشكلة عن طريق استخدام القوة الغاشمة فإنه مخطئ بدوره. سبق لماركس أن أوضح أن الثورة تحتاج إلى سوط الثورة المضادة لكي تتقدم. يوم السبت 21 أكتوبر، خرج 450.000 متظاهر في مسيرة في برشلونة، في حين تجمع عشرات الآلاف في المدن والبلدات الأخرى في جميع أنحاء كاتالونيا، للمطالبة بالحرية للقادة المعتقلين.

كانت انتخابات 21 دجنبر صفعة قوية في وجه الحكومة الاسبانية. جرت هذه الانتخابات في ظروف استثنائية، بدءا من أن الدعوة إليها جاءت من جانب الحكومة الاسبانية، بعد إقالتها للحكومة الكاتالونية وحلها البرلمان الكاتالوني، كما أن ثمانية مرشحين بارزين من الأحزاب المؤيدة للاستقلال هم إما في السجن أو في المنفى، وبالتالي تم منعهم من المشاركة في الحملة الانتخابية. بل لقد تعرضوا للعقاب من قبل سلطات السجن بسبب تسريبهم لرسائل إلى خارج السجن والتي قرأت أو استعملت أثناء الاجتماعات الانتخابية. وقد تم كل ذلك باستخدام الصلاحيات المستمدة من المادة 155 من دستور عام 1978.

وعلى الرغم من كل ذلك، فإن نسبة الإقبال التي بلغت 81,94%، هي أعلى ليس فقط بالنسبة لانتخابات البرلمان الكاتالوني، بل أيضا بالنسبة للانتخابات البرلمانية الاسبانية في كاتالونيا وفي كل إسبانيا. تراجع الحزب الشعبي الحاكم في إسبانيا الى ثلاثة مقاعد في كاتالونيا، وحصلت الكتلة المؤيدة للاستقلال مرة اخرى على اغلبية عامة في البرلمان الكاتالاني. ولذلك فإننا بالضبط أمام نفس الحالة كما من قبل.

مهما كان ما سيحدث خلال الأشهر القليلة المقبلة، فإنه لن يبقى أي شيء في كاتالونيا أو في إسبانيا على ما كان عليه من قبل. لقد تم إطلاق العنان للقوى التي تمزق "الإجماع" الكاذب والنفاق الذي خدع الشعب وحرمه من بديل ديمقراطي حقيقي للدكتاتورية الفرانكوية البغيضة. إن راخوي والحزب الشعبي هما الورثة الحقيقيون لذلك النظام، الذي داس بوحشية على الناس في الماضي، وما يزال يدوس عليهم اليوم.

إن الحركات الجماهيرية التي نراها في كاتالونيا ليست سوى أول أعراض التمرد ضد تلك الديكتاتورية. وستظهر نفس روح التمرد عاجلا أو آجلا في البلد بأسره.

 

الثروات والفقر

 

إن السخط المتنامي في كل مكان هو تعبير عن الاستقطاب الشديد، أي تركيز الرأسمال الذي توقعه ماركس منذ فترة طويلة والذي أنكره الاقتصاديون وعلماء الاجتماع بشدة منذ ذلك الحين.

من الذي يمكنه في الوقت الحاضر أن ينكر صحة تنبؤ ماركس؟ لقد تحقق تركيز الرأسمال بالكيفية التي توقعها تماما. حاليا تتحكم أقل من 200 شركة عملاقة في كل التجارة العالمية. وتتركز الثروة الفاحشة في أيدي عدد قليل من الأفراد. وفي عام 2017 وحده، زاد أكبر أصحاب الملايير في العالم ثروتهم بمقدار الخمس.

وفقا لجوزيف ستادلر، رئيس قسم القيمة المضافة في بنك UBS، فإن اليوم «وصل عدم المساواة في الثروة إلى أعلى مستوياته منذ عام 1905». ووفقا لتقرير جديد يسلط الضوء على الفجوة المتزايدة بين أغنى الأغنياء وبين بقية الفئات الأخرى، يمتلك أغنى واحد في المائة من سكان العالم نصف ثروة العالم.

كما أظهر تقرير صادر عن Credit Suisse أن أغنى سكان العالم زادوا ثروتهم من 42% في ذروة الأزمة المالية لعام 2008 إلى 50,1% في عام 2017، أو 140 تريليون دولار. ويحيطنا التقرير علما بما يلي:

«لقد سارت حصة أعلى 1% من السكان في مسار تصاعدي منذ الأزمة، وتجاوزت مستوى عام 2000 في عام 2013، وصارت تحقق ارتفاعات جديدة كل عام بعد ذلك». وقال البنك: «إن عدم المساواة في الثروة العالمية كان مرتفعا بالتأكيد، وهو يواصل الارتفاع في فترة ما بعد الأزمة».

لقد أدت الزيادة في الثروة بين الأغنياء بالفعل إلى خلق 2,3 مليون مليونير جديد خلال العام الماضي، ليصل العدد الإجمالي إلى 36 مليون مليونيرا. وقال «إن عدد المليونيرات، الذي انخفض في عام 2008، انتعش سريعا بعد الازمة المالية، وهو الآن يقرب من ثلاثة اضعاف الرقم الذي سجل في عام 2000».

هؤلاء المليونيرات -الذين يشكلون 0,7% من السكان البالغين في العالم- يسيطرون على 46% من إجمالي الثروة العالمية التي بلغت الآن رقما مذهلا هو 280 تريليون دولار.

هذا جانب واحد فقط من الصورة. أما في الطرف الآخر من المشهد، فنجد أن 3,5 مليار نسمة من الفقراء البالغين في العالم، يمتلكون أصولا تقل قيمتها عن 10.000 دولار. وهؤلاء الناس، الذين يشكلون 70% من سكان العالم الذين هم في سن العمل، لا يمتلكون مجتمعين سوى 2,7% فقط من الثروة العالمية. هذه مسألة حياة أو موت بالنسبة لملايين الناس.

في عام 2017 وعبر 45 بلدا، كان هناك ما يقدر بـ 83 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات غذائية طارئة، أي أكثر من 70% مما كانت عليه الحالة في عام 2015. وفي عام 2018، قد يحتاج 76 مليون شخص إلى مساعدات غذائية طارئة.

وتعتبر اليمن حالة فاضحة بشكل خاص، فنتيجة للحرب العدوانية الوحشية التي تشنها السعودية وحلفاؤها، فإن 17 مليون يمني ليس لديهم ما يكفي من الطعام، ويعاني أكثر من 3 ملايين من الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات من سوء التغذية الحاد. وقد تجاهلت وسائل الإعلام الغربية المنافقة إلى حد بعيد هذه الفظائع التي يرتكبها المجرمون السعوديون الذين يستخدمون المجاعة عن قصد كسلاح في الحرب.

 

أهمية العامل الذاتي

 

لقد قدمت منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة صورة للردة الرجعية الأشد بشاعة: الحروب والحروب الأهلية وإراقة الدماء والتعصب الديني والمذابح والفوضى. مفتاح هذا الوضع يمكن إيجاده في ثلاثة بلدان وهي: مصر وتركيا وإيران. هذه هي البلدان حيث توجد أقوى البروليتاريا والتي تمتلك تقاليد ثورية عظيمة.

من وجهة النظر السطحية تبدو الردة الرجعية راسخة وقوية في كل من هذه البلدان الثلاثة. لكن هذا التقييم خاطئ من أساسه. لقد بذلت الجماهير المصرية كل ما في وسعها لتغيير المجتمع. لكن غياب القيادة -وحده- هو من قاد حركة 2011 الرائعة إلى الطريق المسدود. وبما أن الطبيعة تكره الفراغ، فإن الفراغ الذي ظهر سرعان ما شغله السيسي وجنرالات الجيش الرجعيون الآخرون. ونتيجة لذلك اضطر العمال والفلاحون المصريون إلى المرور مرة أخرى من خلال مدرسة الردة الرجعية القاسية. لكنهم عاجلا أو آجلا سوف ينهضون مرة أخرى. إن ديكتاتورية السيسي كوخ متداع يقف على أرضية من طين، ونقطة ضعفه القاتلة هي الاقتصاد. إن شعب مصر بحاجة إلى الخبز والشغل والسكن، وهي المطالب التي لا يستطيع الجنرالات تقديمها. مما يجعل الانفجارات المستقبلية حتمية لا مفر منها.

في تركيا أيضا، ظهرت الإمكانيات الثورية للجماهير في انتفاضة عام 2013. لقد تعرضت تلك الانتفاضة للسحق في نهاية المطاف، ونجح أردوغان في تحويل انتباه الجماهير عن طريق استغلال ورقة القومية التركية وإطلاق حرب وحشية ضد الأكراد. لكن القومية لا يمكنها أن تضع الخبز على مائدة ملايين الأتراك المحرومين. وعاجلا أو آجلا سيبدأ رد الفعل ضد النظام، بل هناك دلائل على أنه قد بدأ بالفعل. يجب علينا أن نراقب تركيا عن كثب في الفترة المقبلة باعتبارها واحدة من مفاتيح الشرق الأوسط.

معظم سكان العالم من الشباب. وما لا يقل عن 60% من الشباب، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و 24 عاما، هم عاطلون عن العمل في جميع أنحاء العالم. وقد كان السخط الشديد لهؤلاء الشباب هو ما أثار الثورة في المنطقة العربية قبل بضع سنوات.

والآن ها نحن نرى نفس الظاهرة تتكرر في شوارع مختلف مدن وبلدات إيران. كالمعتاد اندلعت هذه الحركة فجأة، دون سابق إنذار، مثل حجر ثقيل ألقي في مياه بركة هادئة. لقد صدمت وفاجأت جميع هؤلاء الذين يسمون أنفسهم خبراء، وخاصة أولئك الكلبيين العجزة المتعبين ممن يسمون يساريين، الذين مخزونهم الرئيسي هو الارتياب وذلك الاعتقاد العميق الجذور بأن لا شيء على الإطلاق سيحدث، وأن الجماهير لن تتحرك أبدا . لقد وقف كل هؤلاء الناس "الأذكياء" وأفواههم مفتوحة دهشة أمام هذه الحركة التي، وفقا لهم، لم تكن لتحدث أبدا.

يسارع المتشككون إلى طمأنتنا قائلين: "لكن هذه المظاهرات أصغر من تلك التي شهدها عام 2009". نعم، إنها أصغر لكنها أكثر جذرية بكثير، وأكثر اندفاعا وأكثر جرأة وأقل تحفظا. وبسرعة الضوء انتقلت مطالب المتظاهرين من المطالب الاقتصادية إلى المطالب السياسية، ومن البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة إلى المطالبة بالإطاحة بالنظام بأسره. لقد مزق المتظاهرون ملصقات المرشد الأعلى آية الله خامنئي - وهو الشيء الخطير للغاية والذي لم يسبق له أن حدث في إيران. بل هناك بعض التقارير التي تحدثت عن هجمات على صور الراحل آية الله الخميني نفسه.

من هم هؤلاء المتظاهرين؟ كان معظمهم من الشباب والفقراء والعاطلين عن العمل، وليس طلاب الجامعات الذين سادوا في جميع الاحتجاجات السابقة. كانوا غير منظمين، ولا ينتمون إلى أي مجموعة سياسية وليس لديهم فكرة موجهة، باستثناء شيء واحد: رغبة حارقة في التغيير. إلا أن ذلك هو نقطة البداية لكل ثورة.

لقد اهتز النظام من أساسه. إنه يدرك أن هذه الحركة، بسبب مضمونها الطبقي على وجه التحديد، تمثل تهديدا أكثر خطورة بكثير من حركة الملايين الذين خرجوا إلى شوارع طهران في عام 2009. للوهلة الأولى يبدو تردده غير مفهوم، بالنظر إلى صغر حجم التظاهرات نسبيا، فإن الجهاز القمعي القوي الموجود في أيدي الملالي سيكون بالتأكيد أكثر من كاف لإخماد تلك الاحتجاجات، مثلما يطفأ المرء شمعة.

لكن وحتى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه الأسطر، لم يعمل النظام بعد على شن حملة قمعية جدية. الكلب ينبح لكنه لا يعض. لماذا يا ترى؟ هناك سببان رئيسيان: أولا، النظام منقسم على نفسه وأضعف بكثير مما كان عليه في الماضي، وثانيا، لأنه يدرك أن وراء هؤلاء الشباب هناك ملايين الإيرانيين الذين تعبوا من سنوات من الفقر المدقع والبطالة وارتفاع أسعار المواد الغذائية.

لقد فقدوا منذ فترة طويلة الثقة في الملالي الذين تظاهروا بأنهم يدافعون عن الأخلاق والأمانة، بينما هم أيضا فاسدون كما كان مسؤولو الشاه في الماضي. وأي تحرك ضد المتظاهرين من شأنه أن يثير رد فعل غاضب من شأنه أن يخرج الملايين إلى الشوارع مرة أخرى، لكن هذه المرة سيكونون من العمال، وليس فقط الطلاب وأبناء الطبقة المتوسطة.

في هذا الوقت من الصعب التنبؤ بالضبط بما سيكون عليه مستقبل هذا التمرد. إن نقطة ضعفه الرئيسية هي الافتقار إلى التنظيم. فبدون خطة عمل واضحة وفهم عميق للتكتيكات والاستراتيجية، قد تبدد الحركة طاقاتها في سلسلة من المعارك غير المنسقة والتي يمكن أن تنحط بسهولة إلى مجرد أعمال شغب. هذا هو ما ينتظره النظام بفارغ الصبر. ها نحن نعود مرة أخرى إلى المسألة المركزية: مسألة القيادة الثورية.

في عام 1938 كتب ليون تروتسكي أنه يمكن للمرء أن يلخص أزمة الإنسانية في أزمة القيادة الثورية. كانت هناك العديد من الحركات الثورية في الماضي القريب: في مصر وفي تركيا وفي إيران وفي اليونان. لكن في كل حالة من تلك الحالات تعرضت الجماهير للإحباط بسبب عدم توفر العامل الذاتي: أي الحزب والقيادة الثوريين. لو أنه توفر في مصر في وقت الإطاحة بمبارك حزب ثوري ولو صغير، لكان الوضع برمته سيكون مختلفا.

فلنتذكر أن البلاشفة في فبراير 1917 لم يكن لديهم سوى 8000 عضو في بلد شاسع، يضم 150 مليون نسمة أغلبية سكانه من الفلاحين، لكنهم في غضون تسعة أشهر فقط، تمكنوا من أن يحولوا أنفسهم إلى حزب قوي قادر على قيادة العمال والفلاحين إلى الاستيلاء على السلطة.

وبينما نحن ندخل السنة الجديدة، يمكننا أن نكون واثقين من أن الإمكانيات الثورية الجديدة ستعبر عن نفسها في مختلف البلدان الواحد منها تلو الآخر. وتبين إيران أن التغيرات الحادة والمفاجئة هي أحداث متضمنة في الوضع برمته. يجب علينا أن نكون على استعداد لاغتنام كل فرصة لنشر الأفكار الماركسية وبناء قواتنا والتواصل مع الجماهير، بدءا بالفئات الأكثر تقدما، وبناء قوى الماركسية في كل مكان.

أما بالنسبة للجبناء والمرتدين والمتشككين الذين ينكرون منظور الثورة، فلا يسعنا إلا أن نتجاهلهم ونكرر كلمات التحدي التي نطق بها غاليليو غاليلي: Eppur si muove [ومع ذلك فإنها تدور]