البلشفية طريق الثورة الفصل الخامس: سنوات الحرب انهيار الأممية الثانية

اندلاع الحرب العالمية الأولى أثار على الفور أزمة في صفوف الأممية الاشتراكية. ففي انتهاك لكل القرارات التي كانت المنظمة الأممية قد اتخذتها، اصطف زعماء أحزاب الأممية الثانية في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والنمسا، خلف برجوازية بلدانهم وأصبحوا أكثر الشوفينيين سعارا. بدأت الصحافة الاشتراكية الديمقراطية الألمانية في دعوة الطبقة العاملة "للدفاع عن الوطن". وفي اجتماع لفريق الحزب في الرايخستاغ، في 03 غشت، قرر قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي التصويت لصالح اعتمادات الحرب. كما أنهم في اليوم الموالي صوتوا مع أحزاب البرجوازية واليونكر لتخصيص خمسة مليارات مارك لأغراض الحرب. حتى "اليساريون" الذين عارضوا هذا الموقف في اجتماع الفريق صوتوا الآن بـ "الموافقة" بمبرر الانضباط الحزبي! يكشف هذا الموقف بشكل واضح تماما الدور الخسيس الذي تلعبه التيارات الإصلاحية اليسارية والوسطية، والتي، رغم العبارات الجذرية التي ترفعها، تجدها في اللحظات الحاسمة مرتبطة ارتباطا لا ينفصم مع الجناح اليميني. إنهم يعملون دائما كغطاء يساري للإصلاحيين اليمينيين.

[Source]

في جميع البلدان المتحاربة دخل القادة الاشتراكيون الديمقراطيون في حكومات ائتلافية مع ممثلي البورجوازية، وبدأوا يبشرون بعقيدة "الوحدة الوطنية" -التي تعتبر أكثر الشعارات فراغا- معارضين الإضرابات "طوال مدة الحرب" ومتقبلين لجميع الأعباء المفروضة على كاهل العمال والفلاحين باسم الكفاح من أجل النصر. في ألمانيا، نشرت صحيفة فوروارتز (Vorwärts) افتتاحية لهيئة التحرير وعدت فيها بعدم نشر مقالات تعكس "الخلاف الطبقي والكراهية الطبقية" طوال مدة الحرب. كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني هو الحزب الأكثر أهمية ونفوذا في الأممية الثانية، حيث كان يضم حوالي مليون عضو، وبالتالي فقد كانت خيانته حاسمة. لكن بقية الأحزاب الأخرى لم تكن أفضل حالا.

في 31 يوليوز 1914، تعرض الزعيم الاشتراكي الفرنسي المناهض للحرب، جان جوريس للاغتيال على يد الرجعيين. وبعد أربعة أيام على ذلك، صوت القادة الاشتراكيون الفرنسيون لصالح اعتمادات الحرب، كما فعل البلجيكيون، ودخلوا الحكومة الائتلافية البرجوازية (أو ما سمي بـ "الاتحاد المقدس"). في بريطانيا فعل آرثر هندرسون الشيء نفسه. في فرنسا حظيت الخيانة بتأييد "قادة" النقابات الذين كانوا قبل الحرب يهددون بطريقة ديماغوجية بخوض الإضراب العام ضد الحرب. لقد عارض الماركسيون هذا الشعار حتى قبل عام 1914، حيث أن فكرة دعاة السلام والنقابيين- اللاسلطويين القائلة بأنه من الممكن الدعوة إلى إضراب عام لمنع الحرب هي فكرة تتجاهل حقيقة أنه لا يمكن الدعوة إلى الإضراب العام إلا عندما تكون الظروف الضرورية متوفرة. لكن عادة ما يكون الوضع عشية الحرب هو الأقل ملاءمة لمثل هذه الخطوة. وبالتالي ما لم يكن الأمر متعلقا بإضراب عام يكون جزءا من وضع ثوري، يمهد لاستيلاء البروليتاريا على السلطة، فإنه من المستبعد أن يشكل وسيلة لمنع الحرب. إنه في أحسن الأحوال وهم طوباوي، أما في أسوأ الأحوال فهو طريقة لذر الرماد في أعين العمال المتقدمين من خلال إعطائهم الانطباع باتباع سياسة راديكالية، بينما الواقع شيء آخر تماما. وقد وصف تروتسكي ذلك بكونه: "أكثر أنواع الإضرابات العامة سوءا وأكثرها بؤسا على الأطلاق"، ويفسر سبب ذلك قائلا:

«لا يمكن وضع الإضراب العام على جدول الأعمال كطريقة للنضال ضد التجنيد والحرب إلا في حالة ما إذا كانت كل التطورات السابقة في البلاد قد وضعت الثورة والانتفاضة المسلحة على جدول الأعمال. لكن استعمال الإضراب العام، كـ "وصفة سحرية" للنضال ضد التجنيد، سيكون مجرد مغامرة. وباستثناء الوضع الممكن، لكن الاستثنائي، لحكومة تنخرط في الحرب من أجل النجاة من ثورة تتهددها بشكل مباشر، فإن القاعدة العامة هي أن الحكومة تشعر بنفسها قبيل فرض التجنيد، وأثناء فرضه وبعد فرضه، أشد قوة، وبالتالي تكون أقل ميلا لأن تخاف من الاضراب العام. وكقاعدة عامة فإن المزاج الشوفيني الذي يرافق التعبئة للحرب، إضافة إلى الرعب المرتبط بالحرب، يجعل من تنفيذ الإضراب العام مسألة ميؤوسا منها. والعناصر الأكثر جسارة التي تنخرط في النضال دون أخذ الظروف بعين الاعتبار يتم سحقها. من ثم فإن الهزيمة والإبادة الجزئية للفئة الطليعة تجعلان من العمل الثوري أمرا صعبا لفترة طويلة من الزمن خاصة في جو الاستياء الذي تولده الحرب. من الحتمي أن يتحول الإضراب المصطنع إلى مجرد تمرد معزول وإلى عائق في مسار الثورة».[1]

لقد تم إثبات حقيقة هذا القول في عام 1914 عندما قام الزعماء النقابيون- اللاسلطويون، مباشرة بعد يوم من إعلان الحرب، بإسقاط شعار الإضراب العام ضد الحرب جانبا وحملوا بخنوع حقائبهم الوزارية في حكومة "الاتحاد المقدس".

كل القادة الرسميين للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية من جميع البلدان المتحاربة سقطوا بسهولة، لأنهم لم يكونا في حاجة لمن يشجعهم من أجل الالتحاق بصفوف الداعمين لبرجوازيتـ"هم". إن الحرب، حسب عبارة كلاوزفيتز الشهيرة، هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. وقد كان قادة الجناح اليميني للحركة العمالية يطبقون سياسة موالية للبرجوازية في وقت السلم، وبالتالي فإن تعاونهم مع أكثر الدوائر الإمبريالية رجعية في وقت الحرب لم يكن سوى استمرار لتلك السياسة السابقة. الفرق الوحيد هو أن الحرب تنزع بالضرورة قشرة النفاق وتكشف بلا رحمة كل تيار سياسي على حقيقته. إن الإصلاحيين اليساريين، باعتبارهم نزعة برجوازية صغيرة، يتأرجحون بشكل غير مريح بين السياسة البرجوازية والسياسة البروليتارية، ويعبرون عن ارتباكهم وعجزهم بنزعتهم المسالمة. لكن الممثلين الجديين للطبقة السائدة داخل صفوف الحركة العمالية، خدام رأس المال داخل الحركة العمالية كما كانوا يسمون في الولايات المتحدة، لا يخفون دعمهم للحرب. والفرق الوحيد بينهم هو الاختلاف في العصابات الإمبريالية التي يدعمونها. فقد دعم القادة العماليون البريطانيون الملك والوطن في ائتلاف مع لويد جورج وتشرشل، بينما دعم الاشتراكيون الديمقراطيون الألمان القيصر واليونكر الرجعيين. أما الاشتراكيون الديمقراطيون في البلدان الرأسمالية الأصغر فقد دعموا هذا المعسكر أو ذاك، مما كان يعكس تبعية بورجوازيتهم إما للإمبريالية الألمانية أو الأنغلو- فرنسية. وهكذا فقد اصطف الاشتراكيون الديمقراطيون البلجيكيون مع الحلفاء، في حين كان الزعماء الاشتراكيون الديمقراطيون الهولنديون والاسكندنافيون أكثر ميلا إلى ألمانيا.

اجتاحت موجة الشوفينية كل شيء أمامها. كان في متناول الطبقات السائدة في الدول المتحاربة كل الوسائل الضرورية لإرباك الجماهير وتسميمها بآلاف المبررات. وبالتعاون الحماسي من طرف قادة الحركة العمالية، نجحوا في تضليل شريحة كبيرة حتى من العمال المنظمين في بداية الحرب. كان العديد من الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان -ليس فقط قادة الجناح اليميني، بل حتى بعض العمال الشرفاء- على استعداد لتبرير الحرب، على الأقل في البداية. كانت مبرراتهم على النحو التالي: انتصار القيصر [الروسي] يعني أن قوزاقه سيدمرون حزبنا ونقاباتنا وسيمنعون صحفنا ويغلقون مقراتنا. وبنفس الطريقة استمع العامل الفرنسي العادي بثقة لنداءات رينوديل وكاشين وشركائهم لحماية الجمهورية والديمقراطية من القيصر [الألماني] واليونكر. لكن قلق العامل العادي الألماني أو الفرنسي شيء، بينما جبن ونفاق وكلبية قادة الأحزاب الاشتراكية فإنه شيء آخر مختلف تماما.

إن هؤلاء الأخيرين، وعلى عكس الجماهير، لم يكن دافعهم هو الجهل. فالطابع الإمبريالي للحرب كان واضحا من أهداف القوى المتحاربة. لم تكن تلك حربا دفاعية من جانب أي من القوى المتنازعة، بل كانت فقط حربا لإعادة تقسيم العالم، من أجل امتلاك الأسواق والمواد الخام والمستعمرات ومناطق النفوذ بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وروسيا والنمسا- المجر. كانت أعين روسيا مركزة على تركيا، مما أدى مباشرة إلى اندلاع صراع بين ألمانيا وروسيا على القسطنطينية والمضايق. وكانت روسيا في صراع أيضا ضد تركيا حول أرمينيا، وضد النمسا حول البلقان وضد النمسا وإيطاليا حول ألبانيا. كما لا يمكنهم الادعاء بأن اندلاع الحرب أخذ الأممية الاشتراكية على حين غرة، إذ أن القوى العظمى، ولمدة عشر سنوات على الأقل قبل عام 1914، كانت تستعد بشكل منهجي للحرب. وبالتالي فقد كانت مسألة من سيضرب الضربة الأولى غير ذات أهمية.

كان خطر الحرب قد نوقش على نطاق واسع داخل صفوف الأممية. وخلال مؤتمرين أمميين -مؤتمر شتوتغارت (1907) ومؤتمر بازل (1912)- تعهدت جميع الأحزاب الاشتراكية في العالم رسميا بمعارضة أي محاولة لإشعال حرب إمبريالية. وكانوا قد وافقوا في مؤتمر شتوتغارت على تعديل قدمه كل من لينين وروزا لوكسمبورغ يقول:

«في حالة اندلاع الحرب بأي حال من الأحوال، من واجبهم التدخل لإنهائها سريعا والسعي بكل قوتهم للاستفادة من الأزمة الاقتصادية والسياسية التي خلقتها الحرب لتحريض الجماهير وبالتالي تسريع سقوط حكم الطبقة الرأسمالية».

ثم إن مؤتمر بازل، الذي انعقد كاستجابة طارئة لحرب البلقان، صادق بالإجماع على القرار السابق. وكما علق زينوفييف في وقت لاحق:

«لم يكن قرار بازل أسوء من قرار شتوتغارت، بل كان أفضل منه. إن كل كلمة فيه هي صفعة في وجه التكتيكات الحالية للأحزاب "الرائدة" داخل الأممية الثانية».[2]

لأنه في لحظة الحقيقة، خانت كل الأحزاب الاشتراكية قضية الاشتراكية والطبقة العاملة. وحدهما الحزب الروسي والحزب الصربي من وقفا ضد الحرب، بينما وقف الحزب الإيطالي في منتصف الطريق رافعا شعار: "لا تعاون ولا تخريب".

هوامش:

1: Trotsky, Writings, 1935–36, 140–41.

2: Lenin’s Struggle for a Revolutionary International, 35 and 103.

Bolshevism: The Road to Revolution