البلشفية طريق الثورة الفصل الرابع: النهوض لينين والمسألة القومية

ما هو موقف لينين من المسألة القومية؟ يناضل الماركسيون ضد كل مظاهر اللامساواة والتمييز مهما كانت صغيرة. وكمثال على ذلك نحن نقف ضد أي امتياز لصالح لغة معينة. لا يوجد أي سبب لوجود لغة "رسمية" تحتكر امتيازات على حساب لغات أخرى. كان هذا هو موقف لينين. لكن هذا لا يعني أنه يتماهى مع مزاعم التفرد الرجعية التي يتبناها البرجوازيون والبرجوازيون الصغار من القوميات المضطهَدة الذين يطالبون "بالاستقلال الذاتي القومي الثقافي"، ويمجدون لغتهم وثقافتهم "الخاصتين"، الشيء الذي يخفي سعيهم إلى اضطهاد الشعوب الأخرى. «إن شعار الديمقراطية العمالية ليس"الثقافة القومية" بل الثقافة الديمقراطية العمالية الأممية».

[Source]

وراء النداءات إلى "الثقافة القومية" تكمن المصلحة الطبقية للمستغِلين من كل أمة، أي الملاكين العقاريين والرأسماليين. إن الأفكار السائدة في أي أمة هي أفكار الطبقة السائدة، هذا موقف أساسي بالنسبة للماركسيين، وهنا أيضا حافظ لينين على موقف طبقي، حيث يقول:

«إن عناصر الثقافة الديموقراطية والاشتراكية موجودة، ولو في شكل بدائي، في كل ثقافة قومية، لأنه في كل أمة توجد جماهير كادحة ومُستغَلة، والتي تؤدي ظروف حياتها بشكل حتمي إلى نشوء أفكار ديمقراطية واشتراكية. لكن كل أمة تمتلك أيضا ثقافة برجوازية (وفي معظم الأمم ثقافة رجعية ودينية كذلك) باعتبارها الثقافة السائدة، وليس فقط كـ "عناصر". لذلك فإن "الثقافة القومية" هي بشكل عام ثقافة الملاكين العقاريين ورجال الدين والبرجوازية. إن هذه الحقيقة الأساسية، البديهية بالنسبة للماركسي، تم دفعها إلى الخلف من طرف البوندي، الذي "أغرقها" بكلماته المشوشة، أي أنه بدلا من كشف وتوضيح الهوة الطبقية للقارئ، قام في الواقع بإخفائها.. لقد تصرف البوندي، في الواقع، مثل البرجوازي، الذي تقتضي مصلحته نشر الاعتقاد في ثقافة قومية غير طبقية».

ووضح أن:

«الثقافة القومية البرجوازية هي حقيقة (وأكرر أن البرجوازية في كل مكان تدخل في صفقات مع الملاكين العقاريين ورجال الدين). والحقيقة الأساسية في يومنا هذا هي أن النزعة القومية البرجوازية الكفاحية تبلد عقول العمال وتخدعهم وتفرقهم لكي تتمكن البورجوازية من قيادتهم بالسوط. يجب على أولئك الذين يسعون لخدمة البروليتاريا أن يوحدوا عمال جميع الأمم وأن يناضلوا بحزم ضد القومية البرجوازية المحلية والأجنبية».[1]

كان لينين يعارض إنشاء مدارس منفصلة على أسس قومية، والتي من شأنها أن تقسم السكان وتعزز الأحكام المسبقة العنصرية والقومية. لقد كشف لينين الطبيعة الرجعية لهذا المطلب والمطالب الأخرى النابعة عما يسمى بسياسة "الاستقلال الذاتي الثقافي" التي كان الاشتراكيون الديمقراطيون النمساويون يدعون إليها:

«"إن الاستقلال الثقافي القومي" يعني ضمنيا، على وجه التحديد أصفى أشكال النزعة القومية وبالتالي أكثرها ضررا، إنها تتضمن إفساد العمال عن طريق شعار الثقافة القومية والدعاية الضارة، بل والرجعية، إلى التمييز في المدارس على أساس الانتماء القومي. باختصار إن هذا البرنامج يتناقض بدون شك مع النزعة الأممية البروليتارية، ولا يتماشى إلا مع المثل العليا للبرجوازية الصغيرة القومية».

وبدلاً من مطلب "الاستقلال الثقافي القومي"، رفع لينين مطلب الحق في تقرير المصير. وهذا مطلب ديمقراطي ينطلق من قناعة أنه لا يجب إلزام أي أمة بالبقاء ضمن حدود أمة أخرى رغما عنها. إن حق كل شعب في تقرير شؤونه الخاصة، بعيدا عن تدخل شعب آخر أقوى، هو حق أساسي يجب الدفاع عنه. لكن هذا لا يعني أن الماركسيين ملزمون بالدفاع عن الانفصال. في واقع الأمر لقد أشار لينين إلى أنه «بالنسبة إلى الماركسي بطبيعة الحال، عند تساوي جميع الشروط الأخرى، تكون الدول الكبيرة دائما أفضل من الدول الصغيرة».[2] إن الدولة القومية، مثلها مثل الملكية الخاصة، مؤسسة عتيقة ورجعية تعوق التطور الحر للقوى المنتجة. إن هيمنة السوق العالمية، التي تنبأ بها ماركس وإنجلز منذ زمن بعيد، أصبحت الآن حقيقة. لا يمكن لأي بلد، مهما كان كبيرا وقويا، أن يهرب من الهيمنة التي لا تقاوم للسوق العالمية. ولهذا السبب تحول ما يسمى باستقلال تلك البلدان التي نجحت في التخلص من نير الاضطهاد الأجنبي المباشر، منذ عام 1945، إلى مجرد وهم. لقد صارت مستغَلة ومضطهَدة أكثر من ذي قبل، باستثناء أن الاستغلال صار يحدث بطريقة غير مباشرة، من خلال آلية التجارة العالمية.

كتب لينين في أكتوبر- دجنبر 1913: «البروليتاريا، في المقابل، لا تقف فقط ضد التنمية القومية لكل أمة على حدة، بل إنها كذلك تحذر الجماهير من مثل هذه الأوهام، وتدافع عن الحرية الكاملة للتبادل الاقتصادي الرأسمالي، وترحب بكل أنواع الاستيعاب القومي، باستثناء ذلك الذي يقوم على القوة أو الامتيازات».[3]

إن الماركسيين لا يؤيدون إقامة حدود جديدة، بل يناضلون من أجل القضاء على جميع الحدود، وبناء الولايات الاشتراكية العالمية المتحدة. لكن هذا الموقف لا يعالج المسألة في تفاصيلها. نعم نحن نفضل الوحدات الكبيرة، عندما تكون كل الظروف الأخرى متساوية، لكن الظروف ليست متساوية. لقد قال ماركس ذات مرة إنه لا توجد كارثة أكبر بالنسبة لشعب من أن يقمع شعبا آخر. وعندما يحدث هذا يكون من واجب الماركسيين الدفاع عن الأقلية المضطهَدة. نحن نعارض كل أشكال التمييز والظلم والحرمان من الحقوق القومية، وسوف نكافحها. لكن هذا غير كاف. يجب على الطبقة العاملة أن يكون لها موقفها الخاص والمستقل بشأن المسألة القومية، كما هو الحال في أي مسألة أخرى. ويجب على الموقف من هذه المسألة، كما هو الحال في أي مسألة أخرى، أن يخدم قضية النضال من أجل التغيير الاشتراكي للمجتمع. لا يمكن أن نتخلى عن النضال من أجل الاشتراكية أو الصراع بين العمل المأجور والرأسمال لمصلحة أي نوع من أنواع "الوحدة القومية". وحتى أثناء الكفاح ضد الاضطهاد القومي أيضا، يجب أن يكون النضال الطبقي الثوري في المقدمة.

شرح لينين ألف مرة أن الماركسيين الروس، باعتبارهم أبناء قومية مضطهِدة (القومية الروسية العظمى)، عليهم النضال ضد السياسات والممارسات القمعية التي تنفذها برجوازيتهم، والدفاع عن حقوق تلك القوميات المضطهَدة من قبل القومية الروسية. كان ذلك ضروريا لكي يظهر للعمال والفلاحين من القوميات الأخرى غير الروسية أن العمال الروس ليست لديهم أي مصلحة في اضطهادها، بل إنهم المدافعون الأكثر حزما عن حقوقها. وكدليل نهائي على ذلك، أصر لينين على ضرورة أن يرفع الحزب الروسي شعار حق القوميات في تقرير مصيرها. في الواقع كان العمال الروس يقولون للعمال البولنديين والفنلنديين والجورجيين والأوكرانيين وغيرهم: «ليست لدينا أي مصلحة في إبقائكم في القيود. دعونا نوحد جهودنا لإسقاط المستغِلين، ومن ثم سنمنحكم الحرية في تقرير ما ستكون عليه علاقاتكم معنا. نريد أن نوضح لكم أنكم ستعاملون على قدم المساواة المطلقة، وأنكم ستختارون البقاء معنا، لكن إذا قررتم شيئا آخر، فهذا شأنكم الخاص، وسنناضل للدفاع عن حقكم، حتى لو كان ذلك يعني إقامة دولتكم الخاصة».

لم يقدم لينين أبدا أدنى تنازل للنزعة القومية، بما في ذلك قومية المظلومين. لقد كان الدافع وراء موقفه من المسألة القومية هو الإيمان العميق بالأممية والمهمة الثورية للبروليتاريا.

«إذا سمح الماركسي الأوكراني لنفسه بأن تدفعه كراهيته المشروعة والطبيعية بالتأكيد للنزعة القومية الروسية التوسعية، إلى درجة أن ينقل ولو ذرة من هذه الكراهية، حتى وإن كانت مجرد نفور، إلى الثقافة البروليتارية والقضية البروليتارية للعمال الروس، فإن هذا الماركسي ينزلق بالتالي في مستنقع النزعة القومية البرجوازية. وبالمثل فإن الماركسيين الروس سينزلقون، ليس فقط في النزعة القومية البرجوازية، بل أيضا في النزعة القومية للمائة السود، إذا ما هم توقفوا، ولو للحظة واحدة، عن المطالبة بالمساواة الكاملة للأوكرانيين، أو حقهم في تشكيل دولة مستقلة».[4]

إن الهدف الرئيسي لشعار الحق في تقرير المصير هو بالضبط ضمان وحدة الطبقة العاملة. لكن الوجه الآخر للعملة هو أنه على الماركسيين من القوميات المضطهَدة أن يركزوا على محاربة برجوازيتهم، على محاربة سموم النزعة القومية المضطهَدة البورجوازية والبرجوازية الصغيرة، وشن كفاح شرس لمحاربة هيمنة النزعة القومية بين صفوف الطبقة العاملة. وعلاوة على ذلك كان لينين يعارض دوما إقامة منظمات منفصلة لعمال القوميات المضطهَدة. كان الماركسيون الروس يدافعون عن وحدة الطبقة العاملة ومنظماتها، ليس الحزب فقط بل كذلك النقابات العمالية أيضا:

«في مواجهة المشاحنات القومية للأحزاب البرجوازية المختلفة حول مسائل اللغة، وما إلى ذلك، تطرح الديمقراطية العمالية مطلب الوحدة غير المشروطة والاندماج التام للعمال من جميع القوميات في كل منظمات الطبقة العاملة -النقابات العمالية والتعاونيات، وجمعيات المستهلكين والجمعيات الثقافية، وغيرها- في وجه أي نوع من أنواع القومية البرجوازية. وحده هذا النوع من الوحدة والاندماج يمكنه أن يدعم الديمقراطية ويدافع عن مصالح العمال ضد الرأسمال -الذي صار عالميا بالفعل ويصبح كذلك أكثر فأكثر- ويشجع تطور البشرية نحو نمط حياة جديد خال من كل الامتيازات وكل استغلال».[5]

وهكذا فقد كان تقرير المصير مجرد جزء واحد فقط من برنامج يهدف إلى ضمان وحدة العمال في كل من القوميات المضطهـِدة والمضطهَدة. إنه لا يعني على الإطلاق دعم النزعة القومية والانفصالية، كما يشرح لينين عندما يقول:

«إن الاعتراف بهذا الحق [في تقرير المصير] لا يستبعد الدعاية والتحريض ضد الانفصال أو فضح النزعة القومية البرجوازية».[6]

هوامش:

1: LCW, Critical Remarks on the National Question, vol. 20, 22, 24, and 25 (خط التشديد من عندي: آ. و)

2: LCW, The National Program of the RSDLP, vol. 19, 541 and 545.

3: LCW, Critical Remarks on the National Question, vol. 20, 35.

4: Ibid., 33.

5: Ibid., 22.

6: LCW, The National Program of the RSDLP, vol. 19, 544.

عنوان النص بالإنجليزية: