البلشفية طريق الثورة الفصل الرابع: النهوض بعد الكونفرانس

بعد وقت قصير من كونفرانس براغ، في 28 فبراير 1912، نظم المناشفة وجميع المجموعات الأخرى كونفرانسا منفصلا في باريس. كان الانقسام قد صار حقيقة معترفا بها من قبل الجميع. حضر اجتماع باريس لجنة البوند في الخارج وجماعة بليخانوف ومجموعة فبريود ومجموعة غولوس ومجموعة تروتسكي، والتوفيقيون. كان الجميع غاضبين من الممارسات "الانشقاقية" ومحاولات "الانقلاب" من جانب البلاشفة. وكما حدث في مناسبات سابقة، فقد أثاروا ضجة في الخارج، وكتبوا في صحافة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، وأرسلوا احتجاجا إلى مكتب الأممية الاشتراكية. لكن من دون جدوى. كان الانقسام الذي حدث بين التيار الماركسي الثوري وبين التيار الانتهازي في روسيا استباقا للانقسام الذي ستعرفه الحركة العمالية الأممية في عام 1914. وعلى الرغم من أنه لم يكن في مقدور لا لينين ولا أي شخص آخر أن يتنبأ بالخيانة الرهيبة التي ارتكبها قادة الأممية الثانية خلال الحرب العالمية الأولى، فإن لينين كان قد استخلص بالفعل دروس تجربة الصراع بين الماركسية وبين الانتهازية في روسيا وموقف قادة الأممية منه. وفى إشارة منه إلى الوضع داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني قال إنه: "موحد من الخارج، لكن في الداخل هناك اتجاهان محددان بشكل واضح"، وتوقع حتمية الصراع بينهما.

[Source]

اعتبر لينين أن كونفرانس براغ انبعاث جديد للحزب. بعد الكونفرانس كتب لينين إلى مكسيم غوركي قائلا: «لقد نجحنا أخيرا -على الرغم من التصفويين الأوغاد- في إحياء الحزب ولجنته المركزية».[1] وأعرب عن أمله في أن الجناح الثوري، بعد أن تمكن من الانفصال عن المناشفة، صار في إمكانه أن ينكب على مهمة كسب الطبقة العاملة إلى رايته. ومع ذلك، فإن عملية فصل الجناح الثوري لم تحدث بسهولة أو بدون نزاع داخلي. كان رد التيارات الأخرى على كونفرانس براغ هستيريا، كما كان متوقعا، وكان العديد من البلاشفة ما يزالون مترددين حتى بعد كونفرانس براغ. وفي رسالة منه إلى شقيقته آنا، وصف لينين المزاج السائد بين المنفيين قائلا:

«يسود بين رفاقنا هنا من المشاحنات والصراعات أكثر مما سبق لنا أن رأينا منذ فترة طويلة - بل ربما لم يكن هناك مثل هذا من قبل. كل المجموعات والمجموعات الفرعية وحدت قواها ضد الكونفرانس الأخير وضد من نظموه، حتى أن الأمور تصل أحيانا إلى استعمال الأيدي خلال الاجتماعات هنا. باختصار لا يوجد سوى القليل جدا من الأشياء المثيرة للاهتمام أو التي تستحق الذكر».[2]

والأسوأ من ذلك هو أن العديد من الناشطين داخل روسيا، بمن فيهم البلاشفة، كانوا توفيقيين. وقد اعترف لينين في وقت لاحق لغوركي بأن: «العمال الشباب في روسيا» كانوا «غاضبين بشدة من المنفيين».[3] تكشف مراسلات لينين في الأشهر التي تلت كونفرانس براغ عن قلقه. وفي 28 مارس كتب إلى مؤيديه في روسيا: «إنني أشعر بالضيق والانزعاج الشديدين من الفوضى الكاملة التي تسود علاقاتنا واتصالاتنا. حقا إنه وضع محبط!» واعترف أن: "الأمور سيئة" في سان بيترسبورغ، وفي غيرها. قال: «لا تصدر قرارات من أي مكان، ليس هناك ولا قرارا واحدا، يطالب بالمال! [أي الأموال البلشفية التي تحتفظ بها الأممية الاشتراكية]. هذا عار! لم تأت لا من تيفليس ولا من باكو (والتي هي مراكز هامة جدا) أي كلمة ذات معنى عن تسليم تقارير. أين هي القرارات؟ هذا عار ومصيبة!». في وقت لاحق كتب:» أنتم مخطئون بعدم الرد على التصفويين. وهذا خطأ فادح».[4] وكانت هناك العديد من مثل هذه الرسائل.

وفي الوقت نفسه لم يكن معارضو الكونفرانس خاملين. حاول تروتسكي تنظيم اجتماع آخر، في غشت 1912 في بِرْن، لكن وحدهم التصفويون من حضروا الاجتماع، كما لو أن ذلك لتأكيد الورطة السيئة التي وضع نفسه فيها. وقد كتب يصف موقفه في ذلك الوقت قائلا:

«في عام 1912، عندما اتخذ المنحنى السياسي في روسيا منعطفا صاعدا بشكل لا لبس فيه، قمت بمحاولة تنظيم كونفرانس وحدوي لممثلي جميع الفصائل الاشتراكية الديمقراطية. ولإظهار أنني لم أكن وحدي من يراوده أمل استعادة وحدة الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية، أستطيع أن أستشهد بروزا لوكسمبورغ، التي كتبت، في صيف عام 1911: "على الرغم من كل شيء، ما يزال من الممكن إنقاذ وحدة الحزب إذا ما تم إجبار كلا الطرفين على الدعوة إلى كونفرانس وحدوي". وفي غشت 1911، أكدَت مجددا: "إن الطريقة الوحيدة لإنقاذ الوحدة هي عقد كونفرانس عام للأعضاء المبعوثين من روسيا، لأن الجميع في روسيا يريدون السلام والوحدة ويمثلون القوة الوحيدة التي يمكنها أن تعيد الديكة المتصارعة بالخارج إلى رشدها.

كانت الميول التوفيقية ما تزال قوية جدا، حتى بين البلاشفة أنفسهم، وكنت آمل أن يحفز ذلك لينين أيضا على المشاركة في كونفرانس عام. لكن لينين وقف بكل قوته ضد الوحدة. لقد أثبتت مجمل الأحداث التي تلت ذلك، وبشكل قاطع، أن لينين كان على حق. اجتمع الكونفرانس في فيينا، شهر غشت 1912، من دون البلاشفة، ووجدت نفسي رسميا في "كتلة" مع المناشفة وبعض المجموعات المتباينة من المعارضين للبلاشفة. لم يكن لهذه الكتلة أي أساس سياسي مشترك، لأنني كنت أختلف مع المناشفة في جميع المسائل الهامة، وقد استأنفت نضالي ضدهم مباشرة بعد الكونفرانس. وفي كل يوم كانت تندلع صراعات مريرة بسبب التعارض العميق بين التيارين: تيار الاشتراكيين الثوريين وتيار الديمقراطيين الإصلاحيين.

كتب أكسلرود، في 04 ماي، قبيل الكونفرانس بقليل: "من رسالة تروتسكي حصلت على الانطباع المؤلم للغاية بأنه ليست لديه أدنى رغبة في التوصل إلى تفاهم حقيقي وودي معنا ومع أصدقائنا في روسيا... من أجل خوض معركة مشتركة ضد العدو المشترك". وبالفعل لم يكن لدي في الواقع، ولا يمكن أن يكون لدي، أية نية في الاتحاد مع المناشفة للنضال ضد البلاشفة. وبعد الكونفرانس، اشتكى مارتوف، في رسالة إلى أكسلرود، بأن تروتسكي يحيي "أسوأ عادات الفردانية الأدبية التي تميز لينين وبليخانوف". إن المراسلات بين أكسلرود ومارتوف، التي نشرت قبل بضع سنوات، تشهد على هذه الكراهية العميقة التي كانا يشعران بها ضدي. أما من جهتي، فعلى الرغم من الهوة الكبيرة التي فصلتني عنهما، فإنه لم يكن لدي أي شعور من هذا القبيل تجاههما. وحتى اليوم، ما زلت أتذكر بامتنان أنني كنت مدينا لهما في السنوات السابقة بأشياء كثيرة.

كتلة غشت صارت مكونا أساسيا في جميع كتب "مكافحة تروتسكي"، حيث يتم تصوير الماضي، بالنسبة للمبتدئين والجاهلين، بطريقة توحي بأن البلشفية خرجت من مختبر التاريخ مسلحة بشكل كامل، في حين أن تاريخ نضال البلاشفة ضد المناشفة هو أيضا تاريخ الجهود المتواصلة من أجل الوحدة. وبعد عودته إلى روسيا عام 1917، بذل لينين آخر جهوده للتوصل إلى اتفاق مع المناشفة الأمميين. عندما وصلت من أمريكا، في شهر ماي من نفس العام، كانت غالبية المنظمات الاشتراكية الديمقراطية في الأقاليم تتكون من بلاشفة ومناشفة متحدين. وفي كونفرانس الحزب، في مارس 1917، قبل أيام قليلة من وصول لينين، كان ستالين ينادي بالوحدة مع حزب تسيريتيلي. وحتى بعد ثورة أكتوبر، كان زينوفييف وكامينيف وريكوف ولوناتشارسكي، وعشرات الآخرين، يصارعون بجنون من أجل إقامة ائتلاف مع الاشتراكيين الثوريين والمناشفة. وهؤلاء أنفسهم هم الرجال الذين يحاولون الآن الدفاع عن وجودهم الأيديولوجي من خلال نشر الخرافات حول كونفرانس فيينا لعام 1912!».[5]

لقد كانت كتلة غشت مجرد خليط غير مبدئي لأنها كانت تتألف من تيارات مختلفة لا وجود لأي شيء مشترك بينها سوى عدائها للينين. لم يكن قد بقي لأي حديث عن "الوحدة" أي جدوى آنذاك. وعندما انسحب ممثلو فبريود، بقي تروتسكي وحيدا مع التصفويين، الذين لم يكن لديه أي شيء مشترك معهم. كانت كتلة غير طبيعية تماما، كما اعترف تروتسكي بنزاهة في وقت لاحق. لقد كان تروتسكي مخطئا بلا شك في محاولته تحقيق الوحدة في ذلك الوقت، لكن خطأه كان خطأ مناضل ثوري حقيقي يحمل في قلبه مصالح الطبقة العاملة وانتصار الاشتراكية. وبعد سنوات عديدة، أصدر تروتسكي حكما نهائيا بشأن كتلة غشت ودوره فيها، حين قال:

«أتذكر ما كان يسمى بكتلة غشت لعام 1912. لقد شاركت بنشاط في تلك الكتلة، بل لقد كنت بمعنى ما أنا من صنعها. من الناحية السياسية، اختلفت مع المناشفة في جميع المسائل الأساسية، كما اختلفت أيضا مع البلاشفة اليسراويين المتطرفين، الفبريوديين. من الناحية السياسية العامة كنت أقف أقرب إلى البلاشفة، لكنني كنت ضد ''النظام'' اللينيني لأنني لم أكن قد توصلت بعد إلى أن أفهم أنه من أجل تحقيق الهدف الثوري لا بد من وجود حزب ممركز ملتحم بحزم. وهكذا شكلت هذه الكتلة العرضية التي كانت تتكون من عناصر غير متجانسة والتي كانت موجهة ضد الجناح البروليتاري للحزب.

في كتلة غشت كان للتصفويين فصيل خاص بهم، وكان للفبريوديين أيضا شيء يشبه الفصيل، أما أنا فقد وقفت معزولا، كان معي بعض من يشاركونني المواقف لكن بدون فصيل. كنت أنا من كتب معظم الوثائق، ومن خلال تجنب الاختلافات المبدئية كان الهدف خلق شكل من الإجماع حول "قضايا سياسية ملموسة". أخضع لينين كتلة غشت لنقد شديد، وكانت أشد الضربات من نصيبي. وقد أثبت لينين أنه بما أنني لم أتفق سياسيا لا مع المناشفة ولا مع الفبريوديين، فإن سياستي كانت مغامرة. كان ذلك الحكم قاسيا، لكنه كان صحيحا.

و"لظروف التخفيف" اسمحوا لي أن أذكر حقيقة أنني كنت قد حددت مهمتي بعدم دعم الفصائل اليمينية أو اليسراوية المتطرفة ضد البلاشفة، بل توحيد الحزب بأسره. كان البلاشفة بدورهم مدعوون إلى كونفرانس غشت، لكن وبما أن لينين رفض رفضا قاطعا الوحدة مع المناشفة (وقد كان محقا في ذلك بشكل كامل) وجدت نفسي في كتلة غير طبيعية مع المناشفة والفبريوديين. والظرف الثاني المخفف هو أن ظاهرة البلشفية ذاتها، بوصفها الحزب الثوري الحقيقي، كانت تتطور للمرة الأولى، إذ لم تكن هناك أية سابقة لها في ممارسة الأممية الثانية. لكنني لا أسعى بهذه الطريقة أبدا إلى إعفاء نفسي من الذنب. إلا أنه على الرغم من مفهوم الثورة الدائمة، الذي اتضح بلا شك أنه المنظور الصحيح، فإنني لم أحرر نفسي في تلك الفترة، ولا سيما في المجال التنظيمي، من سمات الثوري البرجوازي الصغير. كنت مريضا بمرض التوفيقية تجاه المنشفية وبموقف عدم الثقة في المركزية اللينينية. ومباشرة بعد كونفرانس غشت بدأت الكتلة تتفكك إلى الأجزاء المكونة لها، وفي غضون بضعة أشهر لم أكن خارج الكتلة من حيث المبدأ فقط، بل ومن الناحية التنظيمية كذلك».[6]

في وقت لاحق، تعرض حادث ما يسمى بكتلة غشت لكل أنواع الافتراءات على يد الستالينيين مزيفي تاريخ البلشفية، مع اختراعهم الوقح لما أسموه "كتلة تروتسكي" مع التصفويين. لقد شكلت كتلة غشت بلا شك نهاية محاولات المصالحة، مما دل على استحالة التوحيد بين البلشفية والمنشفية. وقد كان تروتسكي مستاء بشكل خاص من هذه الخطوة نحو الانشقاق التي حطمت جميع خططه، فعمل على مهاجمة لينين، الذي رد بالمثل. وفي خضم الصراع قيلت بعض الكلمات القاسية من كلا الجانبين، والتي تم تصيدها في وقت لاحق من الأرشيفات واستخدامها من قبل الستالينيين لخدمة أهداف تكتلية غير نزيهة في محاولة لتشويه سمعة تروتسكي بعد وفاة لينين، على الرغم من التعليمات الصريحة التي قالها لينين في وصيته بأنه لا ينبغي استخدام ماضي تروتسكي غير البلشفي ضده.

هوامش:

1: LCW, Letter to Maxim Gorky, February 1912, vol. 35, 23.

2: Letter to his sister Anna, March 24, 1912, LCW Vol. 37, 474.

3: LCW, Letter to Maxim Gorky, August 25, 1912, vol. 35, 54.

4: LCW, vol. 35, 28, 29, and 36.

5: Trotsky, My Life, 224–26.

6: Trotsky, In Defense of Marxism, 177–78.