البلشفية طريق الثورة الفصل الثالث: مرحلة الردة الرجعية مجلس الدوما الثاني

كانت الردة الرجعية قد كسبت المعركة لكنها لم تكن بعد واثقة في نفسها. وقد زاوج النظام بين الجزرة والعصا. عمل القيصر على عقد مجلس الدوما الثاني، وفي نفس الوقت شدد حملة القمع. ومرة أخرى طرحت المسألة: هل ينبغي أن يشارك الاشتراكيون الديمقراطيون في انتخابات مجلس الدوما: نعم أم لا؟ كان لينين، بحلول ذلك الوقت، قد توصل إلى الرأي القائل بأن المقاطعة ستكون موقفا خاطئا. وكان قد توصل بالفعل إلى خلاصة أنه كان من الخطأ مقاطعة مجلس الدوما الأول (دوما وايت)، على الرغم من أنه كان وحيدا في تبني هذا الرأي بين قادة الفصيل البلشفي. في شهر شتنبر عام 1906 كتب أنه يجب إعادة النظر في تكتيك المقاطعة.

إن التكتيكات بطبيعتها لا يمكن اعتبارها شيئا جامدا وثابتا طوال الوقت. يجب على التكتيكات أن تعكس الحالة الراهنة في المجتمع وحالة الجماهير النفسية والمرحلة التي تمر منها الحركة. إذا كانت الثورة في تراجع، لا يمكن للحزب أن يتخلى عن أي ساحة شرعية للنضال. من واجبه أن يستخدم كل هامش مفتوح وكل منصة من شأنها أن تساعد على الحفاظ على روابط الحزب مع الجماهير. إن التصرف بأي طريقة أخرى هو تحويل الحزب إلى عصبة. إن العصبوي يعيش في عالمه الصغير، بعيدا عن الجماهير، ولهذا السبب بالذات فإن الأسئلة الملموسة للتكتيكات لا تثير اهتمامه. وبما أنه قد اخترع بروليتاريا (وهمية) خاصة به في عالم مثالي (وهمي)، فلا حاجة له إلى السعي لإقامة علاقات مع الطبقة العاملة الحقيقية ومنظماتها القائمة. في مقاله "العصبوية والمركزية والأممية الرابعة"، (1935)، يصف تروتسكي العصبوي على النحو التالي:

«ينظر العصبوي إلى حياة المجتمع كمدرسة كبيرة، يلعب فيها هو دور المعلم. ينبغي على الطبقة العاملة، من وجهة نظره، أن تضع جانبا مشاكلها الأقل أهمية وأن تجتمع في صف متراص أمام منبره. وهكذا ستحل المسألة.

وعلى الرغم من أنه يقسم بالماركسية في كل جملة من جمله، فإن العصبوي هو النفي المباشر للمادية الجدلية، التي تأخذ الخبرة نقطة انطلاق لها وتعود دائما إليها. لا يفهم العصبوي جدلية التفاعل بين البرنامج المكتمل وبين النضال الجماهيري الحي، أي الناقص وغير المكتمل... العصبوية معادية للجدل (ليس بالكلمات بل في الممارسة) بمعنى أنها تدير ظهرها للتطور الفعلي للطبقة العاملة».[1]

لكن الأمر مختلف تماما بالنسبة للتيار الماركسي الحقيقي، الذي يجب عليه أن يجد الإجابة على السؤال التالي: كيف يمكن ربط البرنامج الماركسي العلمي المكتمل مع الحركة الجماهيرية التي هي بالضرورة غير مكتملة ومتناقضة وغير منسجمة؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بتكرار الصيغ المجردة. يجب إقامة الرابط في كل مرحلة من خلال مراعاة الظروف الحقيقية التي تمر منها الحركة.

بالنسبة للعمال الاشتراكيين الديمقراطيين الطليعيين، كان من الواضح أن مجلس الدوما لا يمكنه حل أية مشكلة من المشاكل التي تواجه البروليتاريا والفلاحين الفقراء، لكن بالنسبة لعموم الجماهير، وخاصة في الريف، كان ذلك غير واضح. لقد أثيرت أوهام كبيرة حول إمكانية تحقيق إصلاحات من خلال البرلمان، ولا سيما الإصلاح الزراعي. أرسل الفلاحون ممثليهم إلى مجلس الدوما، ممثلين بكتلة الترودوفيك (العمل)، وانتظروا النتائج بفارغ الصبر. وحتى بين العمال، رغم أنه كانت هناك أوهام أقل بينهم حول الدوما، فإن هزيمة الثورة كانت تعني أن الدوما بدأ يحتل المزيد من الاهتمام.

كقاعدة عامة لا يقاطع الماركسيون البرلمان إلا عندما يكون هناك احتمال واقعي بأن يحل محله شيء أفضل، كما كان الحال في نوفمبر 1917. ولكن إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن مقاطعة الانتخابات تعني فقط أن حزب العمال يقاطع نفسه. ليس لهذا الموقف أي علاقة مع اللينينية. لقد كان لينين يؤيد تكتيكات مرنة تعكس الحالة المتغيرة. وفي مقابل المناشفة الذين فضلوا عقد صفقة انتخابية مع الكاديت - الليبراليين البرجوازيين - دعم لينين عقد صفقات انتخابية مع الترودوفيك والاشتراكيين الثوريين ضد الأحزاب اليمينية وضد الليبراليين. لقد كانت فكرة تشكيل كتلة يسارية بين الأحزاب البروليتارية والأحزاب البرجوازية الصغيرة الثورية ضد الليبراليين البرجوازيين امتدادا لسياسة الجبهة الموحدة على المستوى الانتخابي. لقد كان من المقبول التصويت في مجلس الدوما جنبا إلى جنب مع تلك الأحزاب حول نقاط محددة حيث يوجد اتفاق مبدئي، في حين يبقي الاشتراكيون الديمقراطيون أنفسهم أحرارا في جميع الأوقات لانتقاد السياسات غير المتناسقة والغامضة والمتناقضة للأحزاب البرجوازية الصغيرة.

القاعدة الذهبية هي: الاستقلالية المطلقة لحزب العمال في جميع الأوقات عن جميع التيارات الأخرى (بما في ذلك البرجوازية الصغيرة الراديكالية). لا تكتلات برنامجية، لا خلط للرايات؛ الحرية الكاملة في ممارسة النقد؛ وقبل كل شيء، كان من الضروري شن نضال حازم ضد الليبراليين البرجوازيين. كان الهدف الأساسي في الواقع هو دق إسفين بين الممثلين السياسيين للبرجوازية الصغيرة وبين الكاديت. إن الرفض الصريح للأوهام الإصلاحية والبرلمانية وجميع أشكال التعاون الطبقي، هي السمات الأساسية لسياسة لينين في تلك الفترة، والتي انعكست في مئات الخطابات والمقالات والقرارات. كانت تلك السياسة بدورها انعكاسا لإستراتيجية أشمل هي الكفاح من أجل هيمنة البروليتاريا على الجماهير البرجوازية الصغيرة، ولا سيما الفلاحين. وقد ظهرت نتائج هذه الإستراتيجية بشكل واضح في ثورة أكتوبر.

تمت تسوية هذه المسألة في مؤتمر نوفمبر 1906، الذي عقد في تامرفورس في فنلندا، بسبب مد الردة الرجعية في روسيا. كانت تلك لحظة حاسمة في تاريخ الحزب، فقد دعم المناشفة والبوند إقامة كتلة مع الكاديت. وقد اعتبر لينين أن هذه هي الخطوة الحاسمة التي تمثل الانتقال النهائي للمناشفة إلى الانتهازية.[2] لكن الحزب كان يعرف آنذاك تغيرا في الحالة المزاجية، وهو ما تجلى في التأييد المتزايد لموقف لينين الذي حصل على دعم 14 مندوبا (65 % من المؤتمرين)، وهو الموقف الذي عبر عنه في "تقرير الأقلية" حيث أكد على ضرورة استقلالية الطبقة العاملة وأن الاتفاقات الوحيدة المسموح بها هي اتفاقات مؤقتة مع التيارات البرجوازية الصغيرة الديمقراطية الثورية. كشف مؤتمر تامرفورس عن وجود صراعات داخلية حادة، لكنها لم تؤد إلى حدوث انقسام. اقتصر لينين على الدفاع عن أفكاره والنضال من أجل كسب الأغلبية، وكان واثقا من أن التجربة سوف تثبت أنه على حق. كان تقسيم صفوف الحزب في ذلك الوقت سيكون موقفا غير مسؤول. كانت هناك حاجة إلى المزيد من الوقت لكي تتوضح في خضم الأحداث المسائل المتنازع عليها بشأن التكتيكات. غير أن الوضع الداخلي في الحزب الاشتراكي الديمقراطي كان معقدا، فقد حدث انقسام فعلي على خلفية التكتيكات الانتخابية في منظمة سان بيترسبورغ، والذي تمت معالجته أخيرا في مؤتمر محلي، عقد في أوائل يناير 1907، رفض التكتل مع الكاديت. وبعد أن خسر المندوبون المناشفة النقاش والتصويت، انسحبوا من أجل إتباع سياستهم بشكل منفصل. كان ذلك مؤشرا عن الأحداث المستقبلية. وبينما استمر الحزب متحدا من الناحية الرسمية، فقد تصاعدت بشكل حاد التوترات بين مختلف الفصائل.

تنص المادة الرابعة من القرار بخصوص التكتيكات الانتخابية، الذي أقره المؤتمر، على أن: «الاتفاقات المحلية مع الأحزاب الثورية والمعارضة الديمقراطية مسموح بها إذا ظهر، خلال الحملة الانتخابية، أن هناك خطر نجاح الأحزاب اليمينية». في الممارسة العملية استخدم المناشفة هذا القرار لدعم مرشحي الكاديت في العديد من المناطق. أما من ناحية أخرى، فقد دافع البلاشفة على أنه

«في المرحلة الأولى من الحملة الانتخابية، أي أمام الجماهير، يجب على الاشتراكيين الديمقراطيين، كقاعدة عامة، أن يتقدموا كحزب مستقل، وأن يقدموا مرشحي الحزب للانتخاب فقط».

ويسمح بالاستثناءات

«في الحالات المستعجلة، وذلك فقط مع الأحزاب التي تتفق بالكامل مع الشعارات الرئيسية للنضال السياسي الفوري الذي نخوضه، أي تلك الأحزاب التي اعترفت بضرورة الانتفاضة المسلحة، وناضلت من أجل جمهورية ديمقراطية. وبالإضافة إلى ذلك لا يمكن تشكيل مثل هذه الائتلافات إلا فيما يتعلق بوضع قائمة مشتركة بالمرشحين، ولا يمكن أن تتداخل بأي شكل من الأشكال مع التحريض السياسي للاشتراكيين الديمقراطيين».[3]

جرت انتخابات مجلس الدوما الثاني في 20 فبراير 1907. وعلى الرغم من كل شيء فقد كان تكوينه أكثر من يسارية من الدوما الأول. كان اليسار ممثلا من قبل 222 نائبا من أصل ما مجموعه 518. وكانت التمثيلية على النحو التالي: 65 نائبا عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي، 104 عن الترودوفيك، 37 عن الاشتراكيين الثوريين، 16 عن "الاشتراكيين الشعبيين" وذلك مقابل 54 فقط عن الأحزاب اليمينية (الملكيين والأكتوبريين)، وكان الخاسر الحقيقي هو الكاديت الذي فقد الدعم من كل من اليمين واليسار، وصار لديه 98 نائبا فقط، مقابل 184 في الدوما الأول.[4] كان هناك عدد أكبر من الفلاحين في الدوما الثاني مما كان في الدوما الأول. لكن المفارقة هي أن التركيبة اليسارية للدوما كانت أحد أعراض تراجع الثورة، وليس تقدمها. وعلى الرغم من أن الجماهير، ليس فقط العمال بل أيضا البرجوازية الصغرى، حاولت الانتقام من الحكم المطلق بالتصويت لصالح اليسار في انتخابات مجلس الدوما، فإنها لم تعد قادرة على شن انتفاضة جديدة.

تكتيك المشاركة في الانتخابات بررته النتائج بشكل كامل، فبفضل تخليهم عن قرار المقاطعة، حصل الاشتراكيون الديمقراطيون على 65 نائبا، على حساب الكاديت أساسا. انتخب العمال المرشحين الاشتراكيين الديمقراطيين في الاقتراع الأول. والغريب هو أن حزب الاشتراكيين الثوريين تمكن في بيترسبورغ، من الحصول على العديد من المقاعد. وفي القرى فاز العديد من مرشحي الكتلة اليسارية. كان الوضع داخل الحزب متقلبا للغاية، وكانت الآراء تتغير في جميع الاتجاهات. وبدأت الاختلافات في الظهور داخل صفوف المناشفة، الذين انضم جزء منهم إلى الكتلة اليسارية.

كانت الفروق بين اليمين (الملكيين / الملاكين العقاريين) وبين الكاديت ضئيلة للغاية في الواقع: فالبرجوازيون "الليبراليون" دافعوا عن مصالح أبناء عمومتهم الملاكين العقاريين، في حين استمروا في تلقينهم أفضل الطرق لإبقاء الجماهير في القهر. في الواقع كان العديد من الكاديت أنفسهم ملاكين كبار. وكانت المسألة المركزية في جميع مداولات الدوما هي المسألة الزراعية. قدم الفريق البرلماني الاشتراكي الديمقراطي نقطة تجميع حقيقية لليسار. لكن الفريق كان ما يزال تحت سيطرة المناشفة، الذين كان لهم 33 نائبا بالإضافة إلى عدد من المتعاطفين.[5] بينما بلغ عدد البلاشفة 15 نائبا وثلاثة متعاطفين.

سرعان ما ظهرت الفروق بين الفصيلين. فتماشيا مع سياستهم الرامية إلى السعي إلى عقد تحالف مع الكاديت، اقترح المناشفة عضوا من الكاديت للرئاسة، في حين اقترح البلاشفة إما عضوا من الترودوفيك أو فلاحا غير حزبي. وناضل النواب الاشتراكيون الديمقراطيون في الدوما باستمرار لدعم مطالب الفلاحين، لكن الحياة نفسها كانت تكشف النقص الصارخ في البرنامج الزراعي القديم للحزب الاشتراكي الديمقراطي. كان البرنامج الذي أقره المؤتمر الرابع للحزب قد اقتصر على مطلب وضع الأرض في يد البلديات، بيد أن الأوضاع كانت قد تجاوزت كثيرا هذه التدابير الجزئية. طالب الفلاحون بالتأميم، ولم يقتصروا على الخطب، فقد كانت هناك 131 "حادثة" في مارس و193 "حادثة" في ابريل و211 في ماي و216 في يونيو. لقد أضيئت المناقشات التي كانت تتم في قصر توريد بنيران الانتفاضات التي اشتعلت في القرى.