أشهر عشر أكاذيب ضد الثورة البلشفية

يمثل تمرد كرونشتاد، في مارس 1921، واحدا من أكبر الانتقادات التي يوجهها اللاسلطويون للثورة البلشفية. ومن المحزن أن أولئك الذين يصرخون "كرونشتاد" بازدراء، نادرا ما أخذوا الوقت لدراسة الأحداث الفعلية المحيطة بالتمرد. في الواقع كانت كرونشتاد مأساة مؤسفة، وليست مثالا على "ديكتاتورية" البلاشفة "المعادين للديمقراطية".

 

يستحق اسم كرونشتاد بحق مكانة عظيمة في سجلات ثورة أكتوبر. لقد كان بحارة القلعة، التي تحرس ميناء بتروغراد، من العناصر الأكثر راديكالية وتضحية بالنفس في عام 1917. لكن الكرونشتاديين عام 1921 لم يكونوا هم نفس أولئك الذين كانوا عام 1917. كان بحارة عام 1917 في الغالب أول من تطوع لمحاربة الجيوش البيضاء في الحرب الأهلية، وكثير منهم مات أو تقلد وظائف أخرى، أما كرونشتاديي عام 1921 فقد كانوا أساسا أبناء الفلاحين.

من أجل كسب الحرب الأهلية اعتمدت السوفييتات سياسة "شيوعية الحرب". وقد تضمنت تلك السياسة أساسا مصادرة الحبوب من الفلاحين من أجل إطعام القوات في الجبهة أو عمال صنع الذخائر في المدن. في البداية كان الفلاحون مستعدين لتقديم هذه التضحية لأن الحكومة السوفياتية كانت تحميهم من عودة ملاكي الأراضي، لكن مع تقدم الحرب الأهلية، بدأت المصالح الاقتصادية في التغلب على التعاطف السياسي. بدأ الفلاحون في المطالبة بالتجارة الحرة في الحبوب، وكان هذا هو المطلب الرئيسي لأبناء الفلاحين في كرونشتاد. كان هناك بعض من اللاسلطويين حاضرين فتم إصدار قرارات مستوحاة من النزعة اللاسلطوية، لكن حرية التجارة بقيت هي القضية الرئيسية.

استمرت الدولة العمالية في التفاوض مع المتمردين حتى نهاية فصل الشتاء، لكن مع الأسف كان الوقت ينفذ، وكان هناك خطر أن يذوب الجسر الجليدي نحو الجزيرة. لو حدث ذلك كانت النتيجة ستكون هي فقدان السيطرة على جميع الشحنات من وإلى بتروغراد. كان يمكن لكرونشتاد أن تتسبب في تجويع العاصمة البروليتارية خلال فترة الحرب الأهلية. كان السماح بحدوث ذلك سيكون إهمالا إجراميا، ولم يكن أمام الحكومة السوفيتية أي خيار سوى تنظيم هجوم مسلح للسيطرة على الجزيرة.

والحقيقة المحزنة هي أن تمرد كرونشتاد، وقمعها اللاحق، كان مأساة مؤسفة للحرب الأهلية. لو كان هناك مزيد من التفاوض لما كان من الضروري أن تحدث. لكن البلاشفة لم يكن لديهم خيار. وبسبب المكر السياسي للأعداء وضع "اللوم" على كاهل ليون تروتسكي. يحتاج الليبراليون والبرجوازيون بوضوح لاستغلال أي شيء لتشويه الراية النظيفة لتروتسكي والمعارضة اليسارية وخلطهما بالستالينية. وقد أشار تروتسكي في وقت لاحق إلى أنه ليست له شخصيا أية علاقة باستعادة الجزيرة، لكن بصفته رئيسا للجيش الأحمر كان من الواضح أنه يتفق سياسيا مع ضرورة الإجراءات التي اتخذها الرفاق على الأرض.

ومهما كانت رغبات البحارة المتمردين، فإن مسار عملهم كان سيؤدي مباشرة إلى استسلام الجزيرة والمدينة إلى الجيوش البيضاء المتمركزة في فنلندا. ومن الجدير بالملاحظة أنه خلال الأشهر التي تلت تمرد كرونشتاد أدرك البلاشفة أن شيوعية الحرب قد وصلت إلى حدودها وطرحوا السياسة الاقتصادية الجديدة. كان أساس السياسة الاقتصادية الجديدة هو حرية التجارة في الحبوب. كان البلاشفة قد قاوموا هذا الإجراء من قبل، لأنهم فهموا أنه سيخدم مصالح الفلاحين الأغنياء (الكولاك). وهذا ما جعل المسألة بأكملها أكثر مأساوية بكثير. ومع ذلك، فإن ذلك لم يمنع اللاسلطويين من معارضة السياسة الاقتصادية الجديدة على الرغم من أن التجارة الحرة كانت هي المطلب الرئيسي للكرونشتاديين! الانسجام هو آخر ما يمكن اتهام اللاسلطويين به.

7) البلشفية تؤدي حتما إلى الديكتاتورية الستالينية

لقد سكب قدر هائل من الحبر من أجل إثبات أن البلشفية تؤدي حتما إلى الستالينية والدكتاتورية. ليس هناك من افتراء ضد ثوار عام 1917 أسوء من المساواة بينهم وبين أولئك الذين كانوا مسؤولين عن خيانتهم وسجنهم وإعدامهم. في الواقع هناك نهر من الدماء يفصل البلشفية عن الستالينية. وبحلول عام 1942، كان تقريبا كل أعضاء اللجنة المركزية البلشفية الذين شاركوا في ثورة 1917 قد ماتوا، كان أغلبهم قد قتل على يد ستالين. لماذا حدثت كل تلك المذابح لو كانت الستالينية هي التطور المنطقي لحزب لينين؟ لم يستطع أحد الإجابة عن هذا السؤال الجوهري.

ليس لصعود الستالينية أية علاقة على الإطلاق مع ما يسمى بـ "الخطيئة الأصلية" للينينية. فالحزب البلشفي في عام 1917 كان يعتمد ليس فقط على الديمقراطية السياسية، بل وكذلك على الديمقراطية الاقتصادية، أي السيطرة الديمقراطية للعمال على الإنتاج، إلى جانب الديمقراطية السوفياتية الشعبية. إنها نظام أكثر ديمقراطية بكثير من تلك التي نراها في ظل الرأسمالية، والتي يسيطر عليها الرأسمال الكبير والمخادعون في البرلمان، والتي تقوم على الديكتاتورية المطلقة في أماكن العمل.

لسوء الحظ كان مستوى التعليم في روسيا القيصرية منخفضا جدا. كان الفلاحون يشكلون 90% من السكان وكان معدل الأمية أكثر من 70%. في تلك الظروف توجب على الدولة العمالية الشابة أن تعتمد على البيروقراطيين القدامى من العصر القيصري من أجل استمرار حركة دواليب الإدارة. وقد كان ذلك مقبولا خلال السنوات الأولى، ما بين 1917 و1921، عندما كان العمال قادرين على وضع البيروقراطيين المتميزين تحت الرقابة. لكن وبعد أربع سنوات من الحرب العالمية، وثلاث سنوات من الحرب الأهلية، صار العمال متعبين. كانت أكثر عناصر البروليتاريا طليعية وتضحية أول من تطوع للقتال، ولسوء الحظ سقط العديد من هؤلاء الأبطال البروليتاريين المجهولين في ساحة المعركة.

وفي حين كان الاتحاد السوفياتي هو من انتصر رسميا في الحرب الأهلية، فقد كان الاقتصاد السوفياتي محطما بسبب الحصار والخراب الذي سببته الجيوش الأجنبية. كان معظم العمال يريدون فقط العودة إلى ديارهم لأسرهم. وفي هذا السياق بدأ البيروقراطيون القيصريون يحققون الاستقلالية عن الرقابة العمالية. وبدأوا تدريجيا في دفع العمال جانبا وإزالة عناصر الرقابة الديمقراطية والمحاسبة.

كان ستالين هو الذي مثل هذه الطغمة البيروقراطية. تمكن ذلك الشخص الذي كان نكرة في عام 1917، من أن يرتفع إلى مكانة بارزة بالاعتماد على جهاز الدولة الذي أصبح أكثر غطرسة مع تخلي العمال عن المشاركة النشطة. وكان العمال الذين يقدمون المطالب لموظفي الدولة يقال لهم: "هل تظن أن هذا عام 1918؟". كانت معركة لينين الأخيرة هي التحالف مع تروتسكي للنضال ضد هذا الانحطاط البيروقراطي وضد ستالين على وجه الخصوص. وقد قال لينين ما يلي عن جهاز الدولة:

«[إنها] مثل سيارة لا تسير في الاتجاه الذي يريده السائق، بل في اتجاه يريده شخص آخر؛ كما لو كانت تقاد من قبل يد غامضة، لا يعلمها إلا الله، يمكن أن تكون يد وصولي، أو رأسمالي، أو كلاهما».

ويقول في مقال آخر:

« جهاز الدولة الذي نسميه جهازنا، ما زال في واقع الأمر جد غريب عنا؛ إنه مزيج برجوازي وقيصري ولم يكن في المستطاع التخلص منه إبان السنوات الخمس الماضية دون مساعدة بلدان أخرى ولأننا كنا "مشغولين" أكثر الوقت بمهام عسكرية وبالحرب ضد المجاعة... لا ريب في أن النسبة المائوية الضئيلة للغاية من العمال السوفييت والذين اتخذوا الصبغة السوفيتية سيغرقون في مد الغوغاء من أصحاب الاتجاه الشوفيني الروسي مثلما تغرق ذبابة في وعاء لبن».

وفي وصيته الأخيرة، التي تم منع صدورها لاحقا، شن لينين صراعا مباشرا ضد ستالين، حين كتب في 24 دجنبر 1922:

«الرفيق ستالين بعد أن صار السكرتير العام للحزب، ركز بين يديه سلطة هائلة، ولست متأكدا بأن في مقدوره دائما أن يستخدمها بما يكفي من التبصر».

ولكن بعد 11 يوما أضاف ما يلي:

«ستالين وقح جدا، وهذا الخلل، على الرغم من أنه يمكن تحمله تماما في وسطنا وفي التعامل بيننا نحن الشيوعيون، يصبح أمرا لا يطاق بالنسبة لأمين عام. ولهذا أقترح أن يفكر الرفاق في طريقة لإزالة ستالين من ذلك المنصب وتعيين شخص آخر عوضا عنه لا يختلف عن الرفيق ستالين إلا بميزة واحدة فقط وهي: أن يكون أكثر تسامحا وأكثر ولاء وأكثر تهذيبا وأكثر مراعاة للرفاق وأقل تقلبا في المزاج، وما إلى ذلك».

إن ما ورد أعلاه أكثر من كاف لإظهار أن لينين كان يعارض البيروقراطية بشكل عام ويعارض ستالين على وجه الخصوص.

يهاجم اللاسلطويون المركزية الديمقراطية باعتبارهم لها سبب الستالينية. هذه حجة غريبة. إن المركزية الديمقراطية هي الديمقراطية الحقيقية الوحيدة للعمل. مبادئها الأساسية هي الحرية الديمقراطية الكاملة في النقاش مع الوحدة الكاملة في العمل. إن المركزية الديمقراطية هي ديمقراطية الإضراب: من حق جميع العمال حرية نقاش مدى صحة الإضراب خلال الجمع العام، ثم بعد ذلك يتم التصويت. فإذا صوت، على سبيل المثال، 70% من العمال لصالح خوض الإضراب، فإنه يتوجب على 100% من العمال أن ينفذوا الإضراب وإلا فلن يكون هناك أبدا أي إضراب ناجح. حقوق الأقلية محمية، لكن قرار الأغلبية هو من يقرر مسار العمل.

وفي مواجهة المركزية الديمقراطية نجد مفهوم اللاسلطوية "الصرفة"، حيث لا أحد ملزم بالقرارات الديمقراطية التي تتخذها المجموعة والتي تتشظى صفوفها عند مواجهة أول تحد. رأينا مثل هذا الشلل في حركة احتلال الساحات [في الولايات المتحدة]. وفي الجهة المقابلة نجد المركزية البيروقراطية الستالينية، حيث لا وجود للنقاش الحر أو حماية حقوق الأقليات. وهنا مرة أخرى تعارض الستالينية البلشفية.

من المفارقات أن العديد من المنظمات اللاسلطوية التي لا يوجد فيها "قادة"، تجد نفسها في وضع مماثل للمركزية البيروقراطية. إن غياب القادة المنتخبين والخاضعين للمساءلة غالبا ما يعني وجود قادة سريين غير منتخبين وغير خاضعين للمساءلة، وهم عادة الأشخاص الأعلى صوتا والأكثر جرأة في القاعة. والقرارات تتخذ لكن لا أحد لديه الحق الديمقراطي في الطعن فيها.

"لكن البلاشفة حظروا أحزاب المعارضة!" هكذا يصيح أصدقاؤنا اللاسلطويون والليبراليون في انسجام تام بينهم. لم تكن أبدا تلك هي نية الدولة العمالية. لكن لسوء الحظ جميع الأحزاب المعارضة في السوفييتات انتقلت في نهاية المطاف إلى معسكر الجيش الأبيض أو انخرطت في هجمات إرهابية منظمة ضد العمال. لا يمكن لأي مجتمع ديمقراطي أن يسمح لمن يستخدمون الوسائل الإرهابية بالجلوس داخل الجمعية التشريعية ليمرروا القوانين بهدوء. يمكن للمرء أن يتصور الموقف لو حاول تنظيم القاعدة ترشيح نائب برلماني في لندن أو لشغل منصب حاكم ولاية نيويورك.

يدافع الماركسيون عن الديمقراطية متعددة الأحزاب، لكن أي شخص يحمل قنبلة أو بندقية ضد الإرادة الديمقراطية للشعب سوف يفقد فورا حقوقه الديمقراطية، مثلما هو الحال في أي مجتمع ديمقراطي آخر. كانت المعارضة اليسارية التروتسكية، الوريثة الحقيقية للبلشفية، هي التيار الأكثر حزما في النضال من أجل الحقوق الديمقراطية. وبالتالي فقد كان أعضاؤها هم أول من تم إرسالهم إلى سيبيريا، في حين فقد تروتسكي حياته في النهاية على يد قاتل ستاليني. يفضل أعداء الثورة الروسية نسيان هؤلاء المناضلين ضد الستالينية. وتجدر الإشارة إلى أنه في الصراع بين المعارضة اليسارية التروتسكية وبين بيروقراطية ستالين، الصراع بين الديمقراطية العمالية الأممية وبين "الاشتراكية في بلد واحد"، كان تعاطف الإمبرياليين موجها إلى ستالين "العملي".

إن الكذبة القائلة بأن البلشفية تؤدي حتما إلى الستالينية هي في الأساس مفهوم مجرد. إنها لا تخبرنا شيئا عن سبب انحطاط الثورة الروسية والأممية الشيوعية. إنها تتجاهل تخلف روسيا القيصرية والحرب الأهلية والحصار والغزو الذي قام به 21 جيشا أجنبيا وفشل الثورة في الامتداد إلى البلدان الرأسمالية المتقدمة وبالتالي عزلة الثورة. لم يكن هناك شيء حتمي بخصوص الظروف التي وجد العمال الروس والمضطهَدون أنفسهم فيها. يبدو أن الليبراليين والإصلاحيين واللاسلطويين، الذين ينشرون هذه الكذبة، يعتقدون أن "البيروقراطية" هي قصور بشري جيني عوض أن يروها بكونها نتاج للعلاقات الاجتماعية. إن البيروقراطية نتيجة حتمية للخصاص. إن الحرب الأهلية والمستوى المتدني للتقنية الموروثة قد جعل من الحتمي أن تضطر الدولة العمالية الشابة إلى مواجهة الكثير من أنواع الخصاص.

هناك طريقتان لإدارة الخصاص، يقوم الرأسماليون بذلك عن طريق الرفع من أسعار السلع، بحيث أن الأغنياء وحدهم من يصير بإمكانهم الحصول عليها، لكن هذه الطريقة لا تنسجم مع الاشتراكية. عندما يكون هناك خصاص في المجتمع الاشتراكي، فإن الخيارات الوحيدة هي الطوابير والتقنين. والطريقة الوحيدة لتنظيم الطابور، لكي لا نرى القوي يدفع الآخرين جانبا، هو وضع شرطي على الخط، لكن يجب أن يحصل الشرطي على نصيبه، أو انه لن يعمل على تنظيم الأمور. هذه هي القاعدة الاقتصادية للبيروقراطية.

وهذا هو السبب في أن التقنية المتقدمة ضرورية لتحقيق اشتراكية حقيقية. لو نجحت الثورة الألمانية في 1918-1923، فإن ذلك لم يكن ليؤدي فقط إلى عدم استيلاء البيروقراطية الستالينية على السلطة، بل كان من الممكن أن تؤدي إلى انطلاق سيرورة للثورة العالمية لا يمكن مقاومتها. كانت التقنية الألمانية المتقدمة متحدة مع المواد الخام والزراعة في الإمبراطورية القيصرية السابقة ستبين ما يمكن أن يحققه الاقتصاد الاشتراكي المخطط ديمقراطيا.

إن الثورة في بلد رأسمالي متقدم مثل كندا أو بريطانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية، لن تواجه التحديات نفسها التي واجهها الاتحاد السوفياتي. لا تعاني هذه البلدان من المستوى الثقافي المنخفض الذي كانت تعانيه روسيا في عام 1917، بل لديها ملايين من خريجي الجامعات الذين لا يستطيعون الحصول على عمل. كما أن هذه البلدان ليس لديها خصاص هائل وتقنية متخلفة، بل لديها مصانع خاملة وشركات تملك مليارات الدولارات غير المستثمرة وغير المنتجة: "المال الميت".

واليوم تتكون ساكنة الأغلبية الساحقة من البلدان من الساكنة الحضرية والطبقة العاملة في المقام الأول. قبل عام 1945 كانت معظم البلدان فلاحية إلى حد كبير. ومستويات التعليم أعلى بكثير اليوم. وباستثناء الفئات العليا، فإن نسبة عالية من موظفي الدولة في الوقت الحالي لا يتمتعون بالامتيازات التي كان نظراؤهم يتمتعون بها في عام 1917. والموظفون اليوم هم من العمال العاديين ذوي الياقات البيضاء الذين هم في الغالب منتمون إلى النقابات وغالبا ما يخوضون الإضرابات. سيكون هؤلاء العمال أكثر من سعداء باستخدام خبرتهم من أجل الصالح العام، بدلا من إخضاع المجتمع للنهب مثل البيروقراطيين القيصريين / الستالينيين.

طرح لينين شروطا للديمقراطية العمالية: انتخاب جميع المسؤولين مع حق عزلهم، يمنع حصول أي مسؤول على أجر أعلى من أجر عامل مؤهل، التناوب على أداء جميع المهام البيروقراطية، وعدم وجود أي جيش دائم يمكن استخدامه ضد الشعب. وقد أدى التخلف إلى إيقاف تطبيق هذه الشروط في الاتحاد السوفياتي، لكن الثورة اليوم لن تواجه أية مشكلة في وضعها موضع التنفيذ. وكما قال لينين: عندما يصير الجميع بيروقراطيا، لا يبقى أحد بيروقراطي. إن الستالينية ليست حتمية.

8) الشيوعية تسببت في قتل 100 مليون شخص

من افتتاحيات الصحف إلى الرسائل على شبكة الإنترنت، تمثل الكذبة القائلة بأن "الشيوعية تسببت في قتل 100 مليون شخص" الطريقة المفضلة لعرقلة كل نقاش. "أنت اشتراكي؟ 100 مليون قتيل"، "تريد الحد الأدنى للأجور؟ 100 مليون قتيل"، " تريد الرعاية الصحية؟ 100 مليون قتيل"... إذ يستخدم اليمين هذا الافتراء المتعدد الأغراض كلما نفدت حججه!

ما هي الحقيقة؟ يستند هذا الادعاء على الكتاب الأسود للشيوعية الذي كتبه ستيفان كورتوا في عام 1998. لقد سبق أن تم فضحه على نطاق واسع بكونه منحازا وباستخدامه منهجية خاطئة ومعايير منافقة، بل حتى بعض المساهمين الرئيسيين في الكتاب انتقدوه قائلين إن كورتوا كان مهووسا بالوصول إلى عدد 100 مليون بأية وسيلة كانت، وأن هذا الرقم مستحيل.

أكثر من 90% من الوفيات التي تحدث عنها الكتاب الأسود تمت نسبتها إلى الأنظمة الستالينية أو الماوية. لقد سبق لنا أن شرحنا بالفعل كيف أن الستالينية ليست لها أية علاقة مع الماركسية الحقيقية، ونحن لا نتحمل أي مسؤولية عن الجرائم الحقيقية لتلك الأنظمة، ونشير إلى أن أول ضحايا الستالينية هم التروتسكيون الورثة الحقيقيون للبلشفية. ونجد أنه من البغيض استغلال وفاة رفاقنا من طرف الرجعيين لتلطيخ الراية التي قاتلوا تحتها.

من يتحمل مسؤولية القتلى الذين سقطوا خلال الحرب الأهلية الروسية؟ هل كانت الحرب الأهلية خطأ جماهير العمال والفلاحين، أي غالبية السكان، الذين كانوا يريدون إنهاء الحرب العالمية الأولى والأرض للفلاحين وتقرير المصير للقوميات المضطهدة والاشتراكية؟ أم أنها خطأ الجنرالات البيض وكبار ملاكي الأراضي والرأسماليين والملكيين، و21 جيشا أجنبيا غازيا، والذين لم يتقبلوا رغبات الأغلبية؟ من يكون المخطئ عندما يقوم اللصوص بمهاجمة منزل، مما أدى إلى حدوث وفيات على كلا الجانبين؟ يجيب الرجعيون بأن أصحاب المنزل هم من يتحمل المسؤولية لأنه لم يكن ليصاب أحدا بأذى لو أنهم فقط استسلموا. ويمكن للمرء أن يلقي اللوم على أبراهام لينكولن بسبب كل تلك الوفيات التي حدثت خلال الحرب الأهلية الأمريكية التي حررت العبيد. خاصة وأنه من الناحية النسبية، بالنظر إلى عدد السكان، قد قتل عدد مماثل في كلا الحربين.

حتى الهجمات على الستالينيين نفاق. فعلى سبيل المثال يحمل الكتاب الاتحاد السوفياتي مسؤولية مقتل 1,5 مليون شخص في أفغانستان، أي عمليا جميع الوفيات التي حدثت في ظل النظام الصديق للاتحاد السوفياتي. لكنه ينسى أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) قد سلحت ومولت تمرد المجاهدين بقاذفات الصواريخ وغيرها من الأسلحة المتقدمة ليشنوا حرب عصابات طويلة. كما أنه ينسى أن هؤلاء المجاهدين قد ضموا "مقاتلين من أجل الحرية" من أمثال أسامة بن لادن، وغيروا اسمهم إلى طالبان في التسعينات. إذن من الذي كان مسؤولا عن تلك الوفيات؟

ومن بين الأحداث التي كثيرا ما يتم ربطها بـ 100 مليون قتيل، المجاعة السوفياتية ما بين 1932 و1933، أو ما يسمى هولودومور. يسرد الكتاب الأسود 04 ملايين قتيل في أوكرانيا و 02 مليون آخرين في بقية الاتحاد السوفياتي. يصنف النظام الأوكراني القومي اليميني هذه المجاعة بكونها إبادة جماعية، وغالبا ما يتم استغلالها لأغراض سياسية لدعم القضية القومية.

إن الماركسيين هم آخر من يعذر الستالينيين عن هذه المجاعة، التي كانت نتيجة لسياسة التجميع القسري الإجرامية التي طبقها ستالين. سبق لتروتسكي أن قام بتحليل ذلك في تحفته ضد الستالينية: "الثورة المغدورة". ومع ذلك فإننا لا نقبل دور الضحية الذي يلعبه القوميون الأوكرانيون المناهضون للشيوعية. الحقيقة هي أنه خلال العشرينات من القرن الماضي استند ستالين إلى الفلاحين الأغنياء (الكولاك)، الذين استفادوا من السياسة الاقتصادية الجديدة، لإلحاق الهزيمة بالمعارضة اليسارية التروتسكية. كانت المعارضة اليسارية تدعو إلى تطبيق سياسة تجميع طوعي للأراضي من أجل تثقيف الفلاحين بمزايا الاشتراكية.

لكن وبمجرد هزيمة التيار البروليتاري التروتسكي صار الكولاك يهددون بالعودة إلى الرأسمالية، مما كان يعرض امتيازات البيروقراطية للخطر. فقام ستالين بشقلبة بـ 180 درجة وتحول ضد الكولاك. وبدلا من التجميع الطوعي، قام بتطبيق التجميع القسري، بهدف "تصفية الكولاك كطبقة". وقد أدت تلك السياسة المجنونة إلى قيام الفلاحين الأغنياء باستهلاك البذور بدلا من زراعتها، والقضاء على الثروة الحيوانية، مما أدى إلى حدوث المجاعة. واجهت أوكرانيا أثرا أكثر حدة لأنها كانت سلة طعام الإمبراطورية القيصرية. لكن كان للمجاعة أيضا تأثير كبير خارج أوكرانيا. وفي حين أن الوقائع لا تدعم الادعاء القومي القائل بالإبادة الجماعية، فإن التروتسكيين كانوا هم الذين ناضلوا ضد هذه المجاعة منذ البداية.

ومن شأن منهجية النفاق التي اتبعها الكتاب الأسود أن تؤدي إلى أرقام ترقى إلى المليارات لو طبقت على الرأسمالية. وقد قام ناعوم تشومسكي، الذي لا يؤيد الستالينية أو الماوية، بإجراء هذا التحليل لمقارنة الهند مع الصين. فبفعل انخفاض حدة التفاوت وبفضل التوزيع الأفضل للموارد الطبية في ظل الاقتصاد الصيني المخطط، بلغ عدد الوفيات الزائدة في الهند وحدها 100 مليون وفاة بحلول عام 1979. ثم ماذا عن تصفية السكان الأصليين في أمريكا الشمالية والجنوبية؟ وتجارة العبيد الرأسمالية في أفريقيا؟ وجرائم الإمبريالية على الصعيد العالمي؟

وينستون تشرشل نفسه يتحمل مسؤولية رئيسية في مجاعة البنغال عام 1943، حيث توفي الملايين. أثناء المجاعة كانت الهند، الخاضعة آنذاك لبريطانيا، تصدر الغذاء. وقد نقل عن تشرشل قوله: «إنني اكره الهنود، إنهم شعب متوحش ولديهم ديانة متوحشة». هذا ناهيك عن مئات الملايين الذين يموتون في الحروب من أجل الربح والاعتبارات الإستراتيجية الإمبريالية. لقد وقعت أكثر من نصف مليون حالة وفاة في العراق وحده، بالإضافة إلى قتلى الحروب العالمية والحروب "الصغيرة" المتواصلة.

وفي شهر مارس من هذا العام، قدرت اليونيسيف أن 600 مليون طفل يواجهون الموت والمرض وسوء التغذية بحلول عام 2040 إذا استمرت الاتجاهات الحالية. وفي تقارير سابقة شرحت بالتفصيل كيف يموت ملايين الأطفال كل عام بسبب أمراض يمكن تفاديها، في حين أن 08 من أغنياء العالم يمتلكون ثروة تعادل ما يملكه بقية سكان الكوكب جميعا. وبهذا المقياس فإن الرأسمالية والإمبريالية والاستعمار قد أنتجوا مكتبة كاملة من "الكتب السوداء". لقد حان الوقت لكي تطوي البشرية صفحة هذا النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يقطر بالدم من كل مسامه.

9) سقوط الاتحاد السوفياتي يثبت أن البشر رأسماليون بطبعهم

بالنظر إلى الوضع الحالي المتميز بالأزمة الطويلة الأمد التي يعرفها الاقتصاد العالمي، من المضحك جدا دفاع اليمين عن الرأسمالية باعتبارها امتدادا "طبيعيا" للحالة الإنسانية. إن الرأسمالية كنظام اجتماعي لم تكن موجودة إلا لمدة مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة، في حين أن الإنسان العاقل (الأوموسابيان)، كنوع، موجود منذ مئات آلاف السنين. هل من المفترض بنا أن نؤمن بأن البشرية لم تكن على "طبيعتها" طيلة مدة 99,9% من وجودها؟

لقد أجابت أعمال أخرى على هذا السؤال من وجهة نظر فلسفية وعلمية أعم، لذلك لن نكرر تلك التفسيرات هنا. الحجة الأساسية لليمين هي أن سقوط الاتحاد السوفياتي راجع لكون البشر أنانيون بطبعهم، وسوف يسقطون في الكسل إذا لم يكونوا مهددين بالطرد والجوع لتحفيزهم على العمل. هذا ادعاء آخر غير مؤكد وخارج الزمان والمكان ولا علاقة له بالواقع.

لقد حقق شعب الاتحاد السوفياتي، الذي انطلق من مستوى منخفض جدا، أشياء مذهلة. وذلك كله على الرغم من سوء الإدارة من طرف البيروقراطية الستالينية. لقد عمل الناس بجد في ظل الاتحاد السوفياتي الذي كان لديه عددا من الأطباء والعلماء والمهندسين أكبر مما كان لدى البلدان الرأسمالية، سواء من حيث القيمة المطلقة أو النسبية، وذلك بفضل الاقتصاد المخطط. ما بين 1913 و1963، ارتفعت إنتاجية العمل في بريطانيا 73%، و332% في الولايات المتحدة، بينما ارتفعت في الاتحاد السوفياتي بـ 1310%. وتجاوزت معدلات النمو السنوية 10% خلال تلك الفترة، في حين واجهت الرأسمالية الأزمة الاقتصادية الكبرى.

كان عدد الأطباء في الاتحاد السوفياتي هو 205 طبيب لكل 100.000 نسمة، مقابل 170 في إيطاليا والنمسا و150 في أمريكا و144 في ألمانيا الغربية و110 في بريطانيا وفرنسا وهولندا و101 في السويد. وفي عام 1970 كان هناك 257.000 خريج هندسة في الاتحاد السوفياتي، مقارنة مع 50.000 في الولايات المتحدة. وقد نتج عن ذلك العديد من الاكتشافات الرائدة وجوائز نوبل والرفاه العام. إنه افتراء خبيث على شعب الاتحاد السوفياتي الرائع أن يقال عنه إن الستالينية سقطت بسبب غباءه أو كسله.

لكن لماذا انهار الاتحاد السوفياتي إذا كان الناس يعملون بجد وكانوا أذكياء جدا؟ يقع اللوم على البيروقراطية الستالينية. لقد أوضح تروتسكي أن الاقتصاد الاشتراكي المخطط يحتاج إلى الديمقراطية مثلما يحتاج جسم الإنسان إلى الأكسجين. تحت الرأسمالية يكون السوق هو الضمانة ضد انعدام الكفاءة، فإذا كانت هناك شركة تشتغل بشكل غير كفئ، فإنها سوف تفلس وتختفي. أما في ظل اقتصاد مخطط بشكل سليم فإن الضمانة ضد عدم الكفاءة هي الرقابة والمشاركة الديمقراطية للعمال أنفسهم. إذا رأى العمال عدم الكفاءة سيحلون المشكلة وإذا ما رأوا طريقة أكثر كفاءة للقيام بالأشياء فسيقومون باتخاذها. لكن مثل هذه الإدارة الديمقراطية من قبل العمال كانت ممقوتة من طرف البيروقراطية الستالينية التي لم يكن يمكنها أن تسمح لأي شيء أن يخرج عن سيطرتها الاستبدادية المطلقة.

خلال السنوات الأولى للاتحاد السوفياتي كان في مقدور خمسين بيروقراطيا في موسكو التخطيط للتصنيع الأساسي، لكن بتكلفة أعلى بكثير مما كان سيحدث في ظل الديمقراطية العمالية. لكن ابتداء من منتصف الستينيات فصاعدا، بدأت معدلات النمو في الانخفاض ثم حدث الركود خلال السبعينيات. كان الاقتصاد قد أصبح أكثر تعقيدا من أن يبقى تحت سيطرة التخطيط البيروقراطي. فانتقل الثقل الهائل الناتج عن سوء الإدارة البيروقراطية والمحسوبية والفساد وعدم الكفاءة، من عائق نسبي للاقتصاد المخطط إلى عائق مطلق.

فانخفضت الحصص من أعلى مستوى بحيث صار من غير الممكن إكمالها دون التضحية بالجودة. فارتفع الاقتصاد الرمادي والأسود لسد الثغرات التي خلقها تبذير وغباء البيروقراطية. أشار ذلك الواقع الاقتصادي على مدى عقدين إلى تراجع الأنظمة الستالينية ثم انهيارها. لقد حاولوا كل شيء تقريبا لجعل الأمور تتحرك لكن بدون جدوى. والشيء الوحيد الذي لم يحاولوا القيام به أبدا هو الانتقال إلى الديمقراطية العمالية خوفا من فقدان السيطرة. ولذلك كبحت الإمكانات الإبداعية الضخمة للطبقة العاملة السوفيتية.

وعوض الانتقال إلى نظام الرقابة العمالية والاقتصاد الاشتراكي المخطط ديمقراطيا، قرر البيروقراطيون أن يتحولوا إلى رأسماليين على حساب بقية سكان الاتحاد السوفياتي. تم وضع كل شيء على طاولة المزاد بأسعار هزيلة مما مهد الطريق لصعود الأوليغارشية الروسية الحالية. لو كانت الرأسمالية نظاما أكثر طبيعية بكثير من الاشتراكية، لكانت هذه "العودة إلى الطبيعة" ستؤدي بالتأكيد إلى حدوث قفزة إلى الأمام للقوى المنتجة. لكن العودة إلى الرأسمالية كانت كارثة قاسية. حدث انخفاض بنسبة 60% في الناتج المحلي الإجمالي وتراجع متوسط العمر المتوقع بـ 15 عاما، وعادت جميع العلل الاجتماعية للرأسمالية بشكل حاد: إدمان الكحول والبغاء والإفراط في استعمال المخدرات والجريمة المنظمة وما إلى ذلك، كما أن وضع المرأة تراجع بشدة. هذا هو إرث الرأسمالية.

يمكن للاقتصاد المخطط ديمقراطيا أن يطلق العنان للإمكانيات المدهشة التي تتمتع بها الطبقة العاملة والتي تقمعها الرأسمالية والستالينية عمدا. في معاهد إدارة الأعمال يتم تدريس الطلاب أن العمال مجرد آلات في حين أن منبع المعرفة والإلهام يتدفق ممن يسمون "قادة الصناعة". لكن في العالم الحقيقي نرى أن هؤلاء الرجال والنساء ذوي البذلات الأنيقة هم من تسببوا في الإفلاس والركود وتسريح العمال، في حين ما يزالون يجمعون المليارات على شكل علاوات.

إن العمال في الميدان هم الذين يفهمون حقا كيف يتم تشغيل الأشياء وكيفية تحسين الأمور. والإدارة هي التي تعرقل الإنتاج عن طريق فرض انقسامات غير ذات جدوى بين العمال ووضعهم ضد بعضهم البعض. وإذا كانت لدى العامل فكرة جيدة في ظل الرأسمالية، فإن المدير سيسرقها ويطبقها، ومن ثم سيخفض عدد العمال بسبب زيادة الكفاءة. لا يوجد حافز لدى العمال لكي يقدموا إضافاتهم عندما يكونون مستلبين خلال عملية الإنتاج. أما في المجتمع الاشتراكي، عندما يقدم العمال إضافة، ستذهب مساهمته لزيادة وقت الراحة أو لتحسين مجتمعهم. تتفق الرأسمالية والستالينية في الاعتقاد بأن الغالبية العظمى من البشرية لا طائل منها وغبية. أما الماركسيون فيعتقدون أن الأغلبية الساحقة لديها الكثير للمساهمة به في المجتمع، وأن الإدارة أو البيروقراطية عديمة الفائدة تفرض نظاما غبيا غير طبيعي.

10) لم تحقق الثورة الروسية شيئا

يقولون إن الثورة الروسية لم تحقق شيئا! لماذا إذن تنفق الأقلام المأجورة للرأسماليين والمصرفيين الكثير من الوقت لقول هذا؟ أي شخص يفكر في الأمور بموضوعية في مقدوره أن يرى زيف هذا الادعاء. ثم إذا لم تكن الثورة قد حققت أي شيء، فلماذا ما تزال البرجوازية تعتبر تجربة أكتوبر بمثابة تهديد؟ لدينا في روسيا بلد انتقل من كونه أكثر تخلفا من معظم المناطق الريفية في باكستان، ليصير القوة العظمى الثانية في العالم. ومع ذلك يقال لنا إنه ليس هناك شيء إيجابي لنتعلمه من تجربة الاتحاد السوفياتي. يا لها من كذبة وقحة!

لقد سبق لنا أن أشرنا إلى بعض أشكال التقدم التقني والاقتصادي المدهشة التي حققها الاقتصاد السوفياتي المخطط، على الرغم من الأغلال البيروقراطية الستالينية. ويمكننا إضافة أمثلة أكثر: بعد الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية، الذي اعتمد سياسة "الأرض المحروقة"، تمكن الاقتصاد المخطط من النهوض مجددا دون مشروع مارشال أو أي مساعدات من الخارج. ارتفع الناتج الداخلي القومي السوفياتي 570% ما بين 1945 و1964، مقارنة مع 55% في الولايات المتحدة التي لم تكن قد تضررت من الحرب. وطيلة تلك الفترة لم يكن أحد يستطيع منافسة تكنولوجيا الفضاء السوفياتية. كان سبوتنيك أول قمر صناعي وكان يوري غاغارين أول إنسان يخرج إلى الفضاء.

ومن بين أهم إنجازات الاتحاد السوفياتي هزيمته لألمانيا النازية، التي كان كامل إنتاج أوروبا تحت تصرفها. لا يتم تدريس هذا في المدارس الغربية، ولكن 90% من المعارك والقتلى خلال الحرب العالمية الثانية كانوا على الجبهة الشرقية. وقد قتل 27 مليون مواطن سوفياتي على أيدي جيوش هتلر.

كانت خطة تشرشل وروزفلت في الأصل هي ترك ألمانيا وروسيا تستنزفان بعضهما البعض، ثم يقومان بعدها بكنس البقايا. لهذا السبب لم يفتحا الجبهة الغربية إلا عام 1944. ما تزال معركة كورسك أكبر معركة دبابات في تاريخ البشرية، وبمجرد أن تعرض الجيش الألماني للهزيمة في ستالينغراد، سجل الجيش الأحمر واحدة من أسرع حملات التقدم في تاريخ البشرية. وقد سمح الاقتصاد المخطط للاتحاد السوفييتي بتجاوز جميع دول أوروبا الرأسمالية من حيث الإنتاج. كانت القوات السوفياتية هي من أطلق سراح اليهود المسجونين في معسكرات الاعتقال، وكانت هي من حرر أوروبا الشرقية ورفع العلم الأحمر على الرايخستاغ. لو لم يفتح البريطانيون والأميركيون الجبهة الغربية لكانوا سيلتقون بالجيش الأحمر في القناة الإنجليزية وليس في ألمانيا. قبل إنزال النورماندي، كان الجهد الرئيسي للحلفاء مركزا بعيدا عن المسرح الرئيسي للمعارك، يعملون على تأمين مستعمراتهم في أفريقيا أو المحيط الهادئ.

لم تكن مكاسب الثورة اقتصادية فحسب، بل كانت اجتماعية أيضا. ففي حين أن النساء في بريطانيا لم يحصلن على الحق في التصويت إلا عام 1928، فقد حققت النساء في الاتحاد السوفيتي المساواة القانونية الكاملة منذ عام 1918. وفي كندا لم تكن النساء تعتبرن من الناحية القانونية "أشخاصا" حتى عام 1929! وأصبح قانون الأسرة السوفياتية محايدا بين الجنسين، وأصبحت المثلية الجنسية مشروعة قبل نصف قرن من الغرب الرأسمالي. وعلى سبيل المثال اتخذ تروتسكي اسم زوجته ولم ير أحد أن ذلك أمر غير عادي. وجرى أيضا تشريع الإجهاض. مع الأسف قضت الثورة المضادة الستالينية على الكثير من هذه المكتسبات، لكن وعلى الرغم من التراجع الذي حدث في الثلاثينيات من القرن العشرين، فبحلول عام 1970 كانت قد تحققت المساواة بين الجنسين بين الطلاب المقبولين بالجامعة، وصار عدد الطالبات أكبر مما هو موجود في معظم البلدان الرأسمالية. وفر الاتحاد السوفياتي التعليم والرعاية الصحية ورعاية الأطفال بالمجان، وهو أمر لم تتمكن الولايات المتحدة أبدا من تحقيقه. وليس من المستغرب أن قفز متوسط العمر المتوقع للإناث من 30 سنة في عام 1927 إلى 74 سنة في عام 1970 وانخفض معدل وفيات الرضع بنسبة 90%.

ازدهرت الثقافة السوفيتية والعلوم خلال العشرينيات. كان هناك ازدهار لا يصدق للفنون بعد الثورة. قاد إيزنشتاين الطريق بكلاسيكياته السينمائية الرائعة، وأدخل شوستاكوفيتش، وغيره من الفنانين، تغييرا ثوريا على السيمفونية، وما زال باليه بولشوي شهيرا حتى يومنا هذا. كما أصبح الاتحاد السوفياتي مهيمنا على الألعاب الاولمبية. العلوم النظرية بدورها شهدت تقدما هائلا. عمل ثيودور دوبزانسكي على التوليف بين الانتقاء الطبيعي الدارويني وبين علم الوراثة عند مندل (Gregor Mendel). لكن مع الأسف تم وقف ذلك بطريقة مأساوية من خلال ما أطلق عليه الواقعية الاشتراكية في الفنون، واللِّيسينكووية (Lysenkoism)[2] في علم الأحياء. لم تكن البيروقراطية الستالينية أبدا تستطيع السماح بالحرية الكاملة للشباب في الثقافة الشعبية، وقد حاولت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) استخدام الرولينغ ستونز والبيتلز ضد الثورة. لكن وعلى الرغم من الرقابة الستالينية، فإن الفنون الكلاسيكية السوفياتية ظلت لا يعلى عليها.

لقد أنتجت الثورة البلشفية المعجزات، وذلك على الرغم من التخلف المادي والاجتماعي والثقافي والهجمات والتخريب من الداخل والخارج. تخيلوا فقط ما الذي يمكن للعمال والشباب اليوم أن يحققوه مع مستوى أعلى بكثير من الثقافة والتعليم. إن ما يضعف المجتمع هو الإنتاج من أجل الربح ونمط الإنتاج الرأسمالي. والمجتمع حاليا في طريق مسدود وهو ينتقل من أزمة اجتماعية وسياسية واقتصادية إلى أخرى. نحن بحاجة إلى تحطيم هذه الأغلال من أجل تحرير إمكانات الإنسانية.

كتب جون ريد رائعته "العشرة أيام التي هزت العالم"، حيث قدم تقريرا نابضا بالحياة عن أحداث عام 1917. وقد حاولنا في هذه المقالة الرد على عشرة من أكثر الأكاذيب التي تهدف إلى الحفاظ على الوضع الراهن. قال لينين ذات مرة إن القوة المحركة للتاريخ هي الحقيقة وليس الأكاذيب، وفي مكان آخر قال إن الماركسية قوية لأنها علمية.

إن التيار الثوري ليس بحاجة إلى الأكاذيب: ما حاجتنا إلى خداع أنفسنا بخصوص الواقع؟ تهدف الماركسية إلى التوصل إلى فهم علمي وكامل للظروف الاجتماعية، حتى نكون في وضع أفضل لتغييرها، فإذا كنا نكذب على أنفسنا لن نزيد سوى من صعوبة هذه المهمة. ولحسن الحظ فقد بدأ عدد متزايد من العمال، وخاصة الشباب، يكتشفون الأكاذيب التي تحافظ على اللامساواة الرأسمالية. ما تزال الثورة الروسية تمثل حتى يومنا هذا أعظم مثال عن كيف يمكن للمستغَلين والمضطهَدين تحقيق تحررهم. ليس هناك من تهديد للوضع الراهن أكبر من أفكار البلشفية وتجربة الثورة الروسية. ونأمل أن تساعد هذه المساهمة العمال والشباب على إيجاد الإجابات التي يحتاجونها للرد على مزاعم الرجعيين وصنع ثورة أكتوبر جديدة، بعد 100 سنة، لكن هذه المرة على مستوى أعلى بكثير.

هوامش:

1: الهولودومور، كلمة ذات أصل أوكراني وتعني القتل بواسطة التجويع. المترجم.

2: مذهب في التطوّر العضوي وضعه، حوالي العام 1930 م، العالم البيولوجي السوفياتي تروفيم ليسينكو، وهو يُنكر وجود المورِّثات، والهرمونات النباتية، ودَور الصِّبغيات المتخصّص، ويقول بمبدأ أساسي هو "الوحدة بين المتعضّي وبيئته"، مؤكداً أن جميع أجزاء المتعضّي تُسْهم في ما ندعوه الوراثة، وأن في إمكان البيئة أن تتحكّم في هذه الوراثة. المترجم

عنوان الحوار بالإنجليزية: