الرئيس الأمريكي يخاطب الأمم المتحدة: رسالة دونالد ترامب إلى العالم

 

يوم 19 شتنبر، ألقى الرئيس دونالد ترامب خطابه الأول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ليعرض رؤيته للعالم والكون والحياة بشكل عام.

السيد ترامب، كما تقول لنا النسخة الصادقة والموضوعية التي أصدرتها منظمة ترامب، هو «التجسيد الحقيقي لقصة النجاح الأمريكية، يضع باستمرار معايير التميز مع توسيع اهتماماته إلى مجال العقارات والرياضة والترفيه. إنه رجل أعمال نموذجي، صانع صفقات بدون نظير».

أمام هذه السيرة الذاتية المجيدة، كيف يمكن للجمعية العامة، التي تتألف من مجرد بشر، ألا تعجب برسالته إلى العالم؟ لقد استعجبوا بدون شك، وإن لم يكن بالضرورة بنفس الطريقة التي توقعها الخطيب الموقر.

ومن أجل جعل أفكاره بسيطة بما فيه الكفاية ليتمكن حتى جمهوره داخل الأمم المتحدة من أن يفهموه، قرر السيد ترامب بحكمة أن يصوغها في شكل رواية. حسب النظرة الترامبية للعالم، كل شيء ينقسم بدقة إلى جيد وجيد جدا، (وهذا الأخير هو الولايات المتحدة تحت القيادة الحكيمة لدونالد ترامب)، وإلى سيء وسيء جدا جدا.

وكما هو الحال في كل القصص الخيالية الجيدة، فإن قوى الخير تدخل دائما في صراع مانوي (Manichean) مع قوى الشر، تلك القوى التي تلقي على عالم السلام والرفاه والديمقراطية ظلالا خبيثة على شكل سحابة سوداء متوسعة باستمرار، ويتزعمها الديكتاتور الشرير (والمجنون) حاكم مملكة كوريا الشمالية المنغلقة، والذي يشار إليه أحيانا باسمه المستعار: كيم جونغ أون، ولكن اسمه الحقيقي، كما اكتشفنا الآن، هو رجل الصواريخ.

وتأتي في المركز الثاني في قائمة قوى الشر (المعروفة أيضا باسم "الدول المارقة") الإمبراطورية الفارسية الشريرة، والتي بشكل خاطئ يطلق عليها أحيانا اسم إيران. شكلت هذه الإمبراطورية الشريرة في الواقع تهديدا خطيرا للحضارة المسيحية الغربية قبل حتى أن تكون هذه الأخيرة قد ظهرت. وتحت حكم الملوك الأشرار داريوس وزركسيس (كيف ينطق ذلك؟) بذلت كل ما في وسعها لتدمير الحضارة اليونانية وتحويلها إلى غبار. لكنها لم تنجح في تحقيق هذا الهدف، والذي حققته بنجاح أنجيلا ميركل بعد سنوات عديدة.

بالمناسبة، لأولئك الذين يتساءلون منكم عن معنى كلمة مانوي إنها كلمة مشتقة في نهاية المطاف من الديانة الفارسية القديمة التي تقسم كل شيء إلى ظلام ونور، خير وشر. وهذا يعني أيضا رؤية الأشياء بالأبيض والأسود. لذا فإن دونالد ترامب يتقاسم ذلك مع الفرس القدامى، لكنه للأسف لا يتقاسم معهم أي شيء آخر، لأنهم كانوا في الواقع شعبا متحضر جدا.

عن الدول المارقة وكيفية التعامل معها

ربما كان من غير الملائم قليلا أن يستعمل الرئيس كلمات قاسية عن الأمم المتحدة بعد أن كان المجلس العام قد خدم بسخاء مصالحه بموافقته على فرض عقوبات جديدة ضد كوريا الشمالية. كان على السيد ترامب أن يبدي بعض الامتنان على الأقل، لأن كل تهديداته بشن حملة النار والغضب على رأس كوريا الشمالية لم تسفر عن شيء من الناحية العملية. ولا شك أنه سيحتاج قريبا إلى مساعدة الأمم المتحدة لإخراجه من الحفرة التي حفرها لنفسه ببراعة.

لكن دونالد ترامب لا يعرف الخوف، ولا الامتنان أيضا. ساكن البيت الأبيض لا يفكر في كلماته، وقد أعلن لجمهوره المندهش (وربما المرعوب) أن رجل الصواريخ في بيونغ يانغ (نعم، يبدو وكأنه عنوان لفيلم رعب رديء) عازم على "مهمة انتحارية"، وأضاف أنه إذا اضطرت أمريكا للدفاع عن نفسها (أو حلفائها): «لن يكون أمامنا خيار سوى تدمير كوريا الشمالية تماما».

لدينا هنا قطعة كلاسيكية حقا من كلام ترامب الفارغ. إنها الدبلوماسية الأمريكية الجديدة، التي تهدف إلى إقامة السلام العالمي عن طريق التلويح بترسانتها النووية كل خمس دقائق. وقد وصف السيد ترامب القادة الكوريين الشماليين بأنهم "عصابة من المجرمين" الذين يهددون العالم بسعيهم للحصول على أسلحة نووية وصواريخ باليستية. وطبعا فالحقيقة المعروفة بأن الولايات المتحدة تمتلك ترسانة نووية تتجاوز كل الأسلحة النووية لبقية العالم، لا تعتبر تهديدا لأي كان، بل إنها، على العكس من ذلك، تجسيد للميولات السلمية للامبريالية الأمريكية.

الآن نحن، مثلنا مثل السيد ترامب ليست لدينا أية ذرة إعجاب بكيم جونغ أون أو نظامه الستاليني. لكن من الضروري الإشارة إلى أن كوريا الشمالية هي دولة آسيوية فقيرة صغيرة، في حين أن الولايات المتحدة هي الدولة العسكرية الأقوى التي شهدها العالم على الإطلاق. ومشهد المواجهة بين العملاق والقزم كما لو أنهما في نفس المستوى شيء يتجاوز كل حدود السريالية.

لقد كشف الصراع مع كوريا الشمالية بوضوح حدود قوة الإمبريالية الأمريكية. ترامب ينفث النار والحجارة، لكن كل تهديداته لم تخلف أي تأثير في بيونغ يانغ، بخلاف زيادة التصريحات العدوانية والمزيد من التجارب النووية والصواريخ التي تحلق فوق اليابان.

من الشائع أن كيم جونغ رجل مجنون وأنه من المستحيل فهم دوافعه. في الواقع ذلك شيء محتمل. لكن في الآونة الأخيرة أعلنت حكومة بيونغ يانغ هدفها، والذي من السهل فهمه، وهو: الوصول إلى حالة من التكافؤ النووي مع الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا بالطبع لا يجب أن يؤخذ حرفيا. فمن المستحيل تماما بالنسبة لكوريا الشمالية أن تعادل الترسانة النووية الهائلة للولايات المتحدة أو حتى أن تقترب منها. إن ما يمكنها القيام به (ويبدو أن لا شيء يمكنه أن يوقفها عن ذلك) هو الحصول على التكنولوجيا المتقدمة بما فيه الكفاية لتكون قادرة على تهديد الولايات المتحدة الأمريكية بضربات نووية على أراضيها.

والسبب وراء ذلك هو حقا بسيط جدا. دعونا نتذكر أن صدام حسين كان قد اتهم من قبل الأميركيين بحيازة أسلحة الدمار الشامل. لكن صدام حسين لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل. لذلك تمت الإطاحة به وقتله من قبل الأميركيين. والخلاصة هي أن كوريا الشمالية، التي تشعر بالتهديد من قبل الولايات المتحدة (التي تصفها بأنها دولة مارقة بقيادة مجرمين مجانين) يجب أن تحصل على أسلحة الدمار الشامل في أسرع وقت ممكن.

قد تكون هذه الخلاصة غير مستساغة، لكن المنطق الكامن وراءها لا يمكن دحضه. وكل الخداع والوعيد من قبل واشنطن والحكايات التي يرويها الرئيس الأمريكي في الأمم المتحدة لن تشكل أدنى الفرق.

إيران: الاتفاق أم عدم الاتفاق؟

بعد أن انتهى من هجومه على كوريا الشمالية، وجه الرئيس انتباهه إلى تلك الدولة المارقة وقوة الشر المعروفة الأخرى: إيران. فسكب ما يعادل دلوا من القذائف على ذلك الاتفاق الذي توصل إليه مع إيران سلفه باراك أوباما، إلى جانب القوى العالمية الأخرى، بعد اثني عشر عاما من المفاوضات الطويلة والشاقة.

كان الهدف المعلن للاتفاق المذكور هو تجميد برنامج إيران النووي مقابل تخفيف العقوبات الدولية. ولم يذكر فيه أي شيء عن نظام إيران الداخلي أو سياستها الخارجية. ولم يكن هذا التغاضي أمرا عرضيا، لأنه كان من شأنه أن يجعل من المستحيل الاتفاق على المسألة المركزية، أي البرنامج النووي الإيراني. استغرق الأمر اثني عشر عاما كاملة من المساومات الصعبة لتأمين الصفقة، وفي النهاية تم التوصل إلى توقيعها. كان هناك ابتهاج في شوارع طهران، وغضب في السعودية وإسرائيل وسخط بين صفوف الحزب الجمهوري الأمريكي.

لقد تم تكثيف الهجمات العنيفة ضد إيران من جانب الدوائر السياسية اليمينية الأمريكية في الفترة الأخيرة. وليس ذلك سوى رد فعل ناتج عن الرعب والارتباك من حقيقة أن إيران قد زادت كثيرا من توسيع قوتها ونفوذها في الشرق الأوسط. والواقع أن الأميركيين وحدهم من يتحملون المسؤولية عن هذا التوسع الإيراني السريع. ليست النجاحات الإيرانية ناتجة عن خطأ أوباما واتفاقيته، بل سببها هو غباء سلفه الجمهوري جورج دبليو بوش.

اقتحم الامبرياليون الأمريكيون الجهلة وعديمي الكفاءة العراق ودمروا البلاد كلها ودمروا جيشها مما أدى إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط برمته. وكل الجرائم والفظاعات اللاحقة هي في نهاية المطاف نتيجة لجرائم الإمبريالية الوحشية. وبتدميرهم للجيش العراقي، تسبب الأمريكيون في إزالة القوة الوحيدة القادرة فعلا على موازنة قوة إيران، التي أصبحت الآن إحدى القوى المهيمنة في المنطقة.

وبعد أن ندد بشدة بما أسماه الدعم الإيراني "للجماعات الإرهابية" في الخارج والقمع السياسي، طالب دونالد العالم بان يواجه النظام "القاتل" في طهران. وقال بطريقة مسرحية إن الاتفاق النووي شكل "إحراجا للولايات المتحدة"، وأن العالم لم "ير بعد كل مساوئه"، في حين كان ممثل إيران منشغلا بألعاب الفيديو على هاتفه الذكي، مع ابتسامة هادئة.

وعلى النقيض من نظيره الإيراني، كان بيبي نتنياهو يقفز صعودا وهبوطا في مقعده للتعبير عن حماسته لدونالد ترامب. لكن الشيء الذي ينسون دائما الإشارة إليه هو أن إسرائيل نفسها لديها بالفعل أسلحة نووية. لقد سرقت إسرائيل منذ الخمسينيات الأسرار النووية وقامت باختبارات سرية لقنابل نووية. بينما اكتفت الحكومات الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، بغض الطرف عن ذلك. تمتلك إسرائيل ترسانة نووية سرية، تقدر الآن بـ 80 رأسا حربيا، مما يجعلها على قدم المساواة مع الهند وباكستان. بل إنها اختبرت قنبلة منذ ما يقرب من نصف قرن، وهو ما لم يتسبب في اندلاع أي احتجاج دولي أو حتى دعاية كثيرة. ولم يؤد إلى أي تصويت باللوم في المجلس العام، أو أي عقوبات أو دعوات لتغيير النظام.

من حق الناس في الشرق الأوسط أن يتسائلوا عن سبب السماح لإسرائيل بحيازة أسلحة نووية، لكن عندما تحذوا إيران حذوها يتم اعتبارها تهديدا للسلام العالمي. ثم دعونا نفكر في المسألة، كيف يتم تصوير البرنامج النووي الجنيني لكوريا الشمالية باعتباره تهديدا للعالم، في حين أن الترسانة النووية الأمريكية الضخمة ليست كذلك؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة غير المعقولة، هي بالطبع واضحة تماما لجميع البشر المعقولين. وقد وضحها بشكل كامل ترامب في حكايته الخيالية، أو باللغة السهلة الفصحى: لأنهم الأشرار ونحن الأخيار.

لسوء الحظ، في العالم الحقيقي، الذي يختلف في بعض الجوانب الهامة إلى حد ما عن عالم القصص الخيالية، يكون في بعض الأحيان من الصعب بشكل رهيب التمييز بين الأخيار والأشرار. وسوريا مثال ممتاز على ذلك. ففي سوريا، يعمل الأميركيون وأصدقائهم السعوديون والإسرائيليون على دعم الجماعات الإرهابية الأكثر شراسة ورجعية منذ سنوات. تسريبات ويكيليكس عن تقارير المخابرات الأمريكية السرية كشفت بشكل قاطع أن السعوديين كانوا يقومون بتسليح وتمويل داعش، في حين أن الأمريكيين والإسرائيليين كانوا يدعمون عصابات أخرى مرتبطة بتنظيم القاعدة.

كان هدفهم هو الإطاحة بنظام الأسد (واستبداله بنظام أسوأ منه بكثير) لكنهم سحقوا بلا رحمة. وكان أحد الأسباب الرئيسية وراء هزيمتهم هو مشاركة القوات الإيرانية وحلفائها من الميليشيات الشيعية، ولا سيما حزب الله في الصراع السوري. وبالتالي، فإن الإيرانيين يسيطرون الآن على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا، وكذلك لبنان من خلال حزب الله، الذي أصبح الآن قوة عسكرية هائلة.

يقول ترامب إن الصفقة مع إيران كانت سيئة للغاية بالنسبة لأمريكا، لكن في الواقع، كانت إيران ملتزمة بشروط الصفقة، في حين أن أمريكا لم تفعل ذلك. لا تعتقد الاستخبارات الأمريكية ولا البريطانية ان طهران بصدد بناء قنبلة نووية كما أن المشاريع الذرية الإيرانية تخضع لمراقبة دولية دائمة. لكن الولايات المتحدة الأمريكية عملت رغم ذلك على تمرير عدد من القوانين بفرض عقوبات جديدة على إيران مما يخرق كلا من نص وروح الصفقة.

والآن يبدو من الممكن أن "صانع الصفقات بدون نظير" سوف يلغي الاتفاق مع إيران بشكل كامل، على الرغم من أن الأعضاء الأكثر هدوءا في إدارته سيحاولون إقناعه بعدم القيام بذلك. لكن ما هي النتيجة إذا ما فعل ذلك؟ سوف تتبع طهران مثال كوريا الشمالية، وتسرّع برنامجها النووي، وكما هو الحال مع كوريا الشمالية، ليس لدى الأمريكيين الكثير مما يمكنهم فعله لوقفها.

قد يميل الإسرائيليون إلى إغراء القيام بشيء حيال ذلك. غير أن هامش عملهم العسكري محدود وسيقتصر على القصف. ومن شأن ذلك أن يكون غير فعال، لأن الإيرانيين مستعدون بشكل جيد وسيتم حماية منشآتهم النووية في مخابئ من الخرسانة المسلحة تحت الأرض والتي يمكنها أن تصمد أمام كل الضربات. وفي أفضل الأحوال لن يؤدي القصف إلا إلى تأجيل البرنامج النووي الإيراني، لكنه لن يمنعه من النجاح. ومن شأن ذلك أن يدفع السكان إلى الالتفاف وراء الحكومة، دون أن يمنع إيران من أن تصبح قوة نووية.

ما يحبه ترامب وما يكرهه

السيد ترامب، مثله مثل بوتوم في مسرحية "حلم ليلة في منتصف الصيف" لشكسبير، يمكنه أن يزأر "كأي بلبل من البلابل"، وحتى لا يخيف السيدات سيجعل زئيره "رقيقا كهديل الحمام". لكن ما ذكرته جميع الصحف في اليوم التالي في عناوين لافتة كان سلسلة من التهديدات العدوانية لجميع قوى الشر التي تجرؤ على تهديد أمريكا أو إزعاج النوم الهادئ لمواطنيها. ولم يخفِ غوغائيته القومية المميزة سوى بقليل من المصطلحات الدبلوماسية حول عمل جميع "البلدان المسؤولة والمفتخرة بسيادتها" معا بشكل متناغم لعزل "الأنظمة المارقة" (كوريا الشمالية وإيران) من أجل قضية الدفاع عن النفس والسلام العالمي الجليلة والمقدسة. وجاءت رسالته الأساسية بصوت عال وواضح: "أمريكا أولا".

وقد غنى السيد ترامب ترنيمة طويلة (لكن بشكل مفرط) من الثناء على النزعة القومية (أو الوطنية كما يفضل أن يسميها) واقتصاد السوق الحرة (أي الرأسمالية). وحث البلدان الأخرى على إتباع مثاله الساطع، بسحب الجسور وبناء اقتصاداتها الوطنية القوية. وأعلن التزامه الثابت بتلك الأمور التي جعلت أمريكا عظيمة: المبادرة الشخصية والسوق الحرة والدين والأسرة، والتي، كما نعلم جميعا، هي الأساس الحقيقي لأي مجتمع سليم (ولسبب ما نسي أن يذكر الأمومة وفطيرة التفاح).

هذه هي الخلاصة الإجمالية لنظرة دونالد ترامب الفلسفية للعالم. هذه هي الأشياء التي يدافع عنها. لكن ما هي الأشياء التي يحاربها؟ لم يضيع أي وقت في تعدادها: أولا وقبل كل شيء، الاشتراكية، والتي مجرد فكرتها تكفي لإصابة الرئيس بنوبات غضب تسبب ارتفاعا بالغا لضغط دمه. والشيء الآخر الذي يمقته كذلك هو، كما أخبرنا، البيروقراطية العالمية.

والآن من غير المحتمل أن يكون رجل بهذه الصفات الفكرية المتميزة،التي يمتلكها دونالد ترامب، غير مدرك لواقع أن الأمم المتحدة هي في حد ذاتها بيروقراطية عالمية بامتياز. إن هذا الإغفال ليس نتيجة للنسيان. فدونالد ترامب، مثله مثل ملوك آل بوربون، الذين يشبهونه في العديد من النواحي،لا يتعلم شيئا ولا ينسى شيئا. فنسخته الدنيئة عن القومية، التي تعبر فقط عن رغبة الإمبريالية الأمريكية في وضع الكرة الأرضية بأكملها تحت حذاءها، هي فقط أحد وجهي العملة. أما الوجه الآخر فهو عدم ثقة عميقة في الحلفاء الذين لا يلعقون ذلك الحذاء بما يكفي من التلذذ - وكراهية واشمئزاز عميقين من المنظمات مثل الأمم المتحدة.

تأسست الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ويزعم أن ذلك لمنع الحروب والصراعات في المستقبل. ينطبق الشيء نفسه على عصبة الأمم التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى بأهداف مماثلة. وصف لينين عصبة الأمم بأنها "مغارة اللصوص". وهذا الوصف مطابق تماما لطبيعة الأمم المتحدة كذلك. ليس سجل الأمم المتحدة في منع الحروب والصراعات أفضل ولو بمثقال ذرة من سجل العصبة القديمة. فالأمم المتحدة لم تمنع أبدا أي حرب، على الرغم من أنها شاركت في أكثر من حرب.

كان مؤسسو الأمم المتحدة يعتقدون فعلا أنه يمكنها أن تشكل الأساس لحكومة عالمية. لكن فكرة وجود حكومة عالمية في ظل الرأسمالية هي تناقض في حد ذاته. تقوم الرأسمالية على الدولة القومية، ويشدد ميثاق المنظمة على سيادة كل دولة عضو. ويدعو الميثاق نفسه الأعضاء إلى مراعاة وتعزيز "حقوق الإنسان والقيم العالمية". ومن المستحيل أن يشرح المرء كيف يمكن لحكومات بلدان مثل السعودية أن توقع على مثل ذلك البيان دون أن تضحك.

وقال ترامب "إننا ندعو إلى إعادة إحياء الأمم"، دون أن يشير ولو أدنى إشارة إلى الأمم المتحدة. وقال إن أمريكا لا تتوقع أن "تتقاسم بلدان مختلفة نفس الثقافات أو التقاليد أو حتى نظم الحكم". إلا انه أشاد بتلك البلدان "المسؤولة" التي تحارب الإرهاب والتهديدات الأخرى. ومَنْ مِن بين تلك البلدان "المسؤولة" اختار أن يذكر؟ ليس سوى المملكة العربية السعودية.

المملكة العربية السعودية

إن اتهام ترامب لإيران بأنها ترعى منظمات إرهابية وتهدد البلدان المحبة للسلام مثل المملكة العربية السعودية، كان له وقع الموسيقى على أذني وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، الذي يشبه في ملامحه وشكله الممثل الشهير فنسنت برايس في دور دراكولا. كاد وجه السيد الجبير يحمر خجلا وسرورا بهذا السيل من الثناء. إلا أنه، مثل دراكولا، ليس قادرا على الخجل.

لكن حكاية ترامب الخيالية للأسف تقلب الحقيقة رأسا على عقب. فإذا ما تتبعنا الخيوط التي تربط كل العصابات الجهادية المختلفة بمصدرها النهائي، سنجد أن معظمها، إن لم نقل كلها، توصل ليس إلى طهران بل إلى الرياض. كان أغلب الذين نفذوا الهجوم الإرهابي على البرجين في 11 شتنبر سعوديين. كان هناك أيضا أردنيون، لكن لم يكن بينهم عراقي واحد. ومع ذلك فإن العراق، وليس المملكة العربية السعودية أو الأردن، هو من تعرض للغزو. وفي اليوم التالي لهجمات 11/09 أمر الرئيس بوش بمنع تحليق جميع الطائرات فوق الولايات المتحدة الأمريكية، باستثناء الطائرات التي حملت مواطنين سعوديين من الولايات المتحدة - بمن فيهم أقارب أسامة بن لادن.

ليس سرا أن السعودية، إلى جانب إسرائيل، هي الآن معقل الثورة المضادة في الشرق الأوسط. إن العصابة الرجعية في الرياض، التي تصدر، بالإضافة إلى النفط، التعصب الوهابي السام، لها علاقات ممتازة مع الإمبرياليين الغربيين وإسرائيل (لقد أقامت معها للتو رحلات جوية مباشرة). فبامتلاكهم لكميات كبيرة من النقد يشترون خدمات العملاء الذين ينشرون أيديولوجياتهم الرجعية من خلال آلاف المنظمات: من المدارس في باكستان و"الجمعيات الخيرية" في شمال أفريقيا إلى الحركات الجهادية المسلحة في العراق وسوريا وليبيا.

إن النجاح الذي تحققه إيران في سوريا والعراق هو ما دق أجراس الإنذار في واشنطن وتل أبيب، وقبل كل شيء في الرياض. وفي محاولة يائسة لوقف انتشار النفوذ الإيراني / الشيعي قرر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي يعتبر الحاكم الفعلي للسعودية، إطلاق مغامرة أخرى في اليمن، حيث تدعم طهران المتمردين الحوثيين.

يشارك التحالف العسكري بقيادة السعودية في حرب إجرامية، حيث يتم قصف أهداف مدنية ومدارس ومستشفيات ومخازن للمواد الغذائية وإمدادات المياه والطرق والموانئ، في محاولة لتجويع السكان لإجبارهم على الخضوع. وبطبيعة الحال بقي الغرب صامتا عن هذه الفظائع، مثلما هو صامت عن الأعمال الوحشية التي يرتكبها النظام السعودي الهمجي ضد مواطنيه منذ عقود.

يصمت هؤلاء المنافقون في الغرب عن الفظائع التي يرتكبها التحالف الذي تقوده السعودية ضد الشعب اليمني. إن الغرب "الديمقراطي"، الذي يثير الضجيج حول جرائم الحرب الحقيقية أو المزعومة في سوريا، ليس فقط متواطئا بالصمت مع الجرائم السعودية ضد الإنسانية، بل إنه يدعمها بالفعل. لقد عملت الحكومة البريطانية على حضر تقرير حول الجهة التي تمول الحركات الجهادية الرجعية في بريطانيا. نحن نعرف أن الجواب هو السعودية، لكنهم يخفون ذلك عمدا.

إن النظام الملكي السعودي هو النظام الأشد وحشية وفسادا الذي يمكن تخيله. ومن بين العادات المبهجة لهذه الجنة الوهابية نجد الجلد وقطع الأطراف والرجم حتى الموت وقطع الرؤوس والصلب. لكن السيد ترامب، اللطيف والمهذب، لا يتوقع من أصدقائه السعوديين "تقاسم نفس الثقافات أو التقاليد أو حتى أنظمة الحكم". وهو ما يعني به: لستم في حاجة إلى الديمقراطية في المملكة العربية السعودية: رجاء استمروا في قطع الرؤوس وقطع الأيدي والأقدام وصلب العديد من الناس كما يحلوا لكم - طالما أنكم لا تدوسون على أصابع قدمي.

لكن تلك المغامرات العسكرية تكلف السعوديين الكثير. لقد أحرقوا أصابعهم في سوريا، حيث تكبدوا هم وحلفاؤهم هزيمة موجعة. وهم الآن يواجهون الهزيمة في اليمن.

فنزويلا

وبعد أن بحث في القاعة بعيونه القاسية، مثل نسر يبحث عن عشاء سهل، ثبت ترامب نظرته النارية على فنزويلا، التي يعتبرها مثالا عن كل ما هو سيء في "الاشتراكية"، التي هاجمها بكونها "أيديولوجية فاشلة". كان الهدف من ذلك بوضوح أن يكون ذروة خطابه الأكثر دراماتيكية في الأمم المتحدة.

أعلن: «إن أمريكا تقف مع كل شخص يعيش في ظل نظام وحشي». وأضاف «إن احترامنا للسيادة هو أيضا دعوة للعمل. كل الشعوب تستحق حكومة تهتم بسلامتهم ومصالحهم ورفاههم، بما في ذلك ازدهارهم». كيف يمكن لهذا أن ينسجم مع تصريحه السابق بأنه لا يتوقع من جميع البلدان «أن تتقاسم نفس الثقافات أو التقاليد أو حتى أنظمة الحكم»؟

قبل سنوات عديدة، قال هنري فورد لزبنائه إنه يمكنهم أن يحصلوا على سيارة بأي لون يحلو لهم، طالما أنها سوداء. والآن ها هو السيد ترامب يخبر العالم بأسره أنه يمكنه أن يكون له أي نظام يحب، طالما أنها الرأسمالية. ولدفع هذه النقطة إلى أقصاها، شن هجوما كاسحا ضد الاشتراكية وكل سياساتها:

«من الاتحاد السوفياتي إلى كوبا وفنزويلا - أينما طبقت الاشتراكية أو الشيوعية – نجد الحزن والدمار والفشل. وهؤلاء الذين يدعون إلى مبادئ هذه الأيديولوجيات المدمرة لا يعملون إلا على المساهمة في استمرار معاناة الناس الذين يعيشون تحت هذه الأنظمة القاسية، وأمريكا تقف مع كل شخص يعيش في ظل نظام وحشي».

وقال: «المشكلة في فنزويلا ليست هي عدم تطبيق الاشتراكية بالشكل الصحيح، بل في أنه تم تطبيقها بشكل كامل». كانت هذه هي اللكمة التي كان من المفترض أن تدفع الحضور إلى الوقوف والانخراط في موجة تصفيق حاد: كانت تلك لمحة حقيقية عن عبقرية كاتب خطابه. فتوقف الرئيس لفترة من الوقت، وانتظر، بينما تطايرت من فكه بعض قطرات اللعاب، ثبت عينيه على المسافة المتوسطة، وانتظر انطلاق عاصفة التصفيق التي من شأنها أن تحيي بالتأكيد هذه التصريح الملهم.

لكنه انتظر وانتظر. مرت ثانية واحدة، بدت كأنها الدهر، ثم أخرى، ثم أخرى. لكن التصفيق لم يحدث. وجثم صمت محرج مؤلم على قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، لم تقاطعه إلا بعض الضحكات المتناثرة، عندما بدأ بعض الحاضرين في إدراك ورطة الرئيس. وفي نهاية المطاف - بعد أن انتظر ترامب بيأس لعدة لحظات طويلة- عمل بعض أصحاب القلوب الرحيمة في القاعة على التصفيق بهدوء. لكن ضعف التصفيق كان دليلا كافيا على فشله.

جاء ذلك التصفيق كما هو منتظر من منصات إسرائيل والمملكة العربية السعودية ومصر والفلبين، مع انخراط تيريزا ماي وبوريس جونسون في التصفيق بأقصى قدر ممكن على أمل أن يتمكن سيدهما من سماعهما ويبتهج بأن العلاقة المتميزة مع المملكة المتحدة - أي العلاقة بين الكلب الأليف وسيده- قائمة وبحالة جيدة.

يبدو أن دونالد ترامب لم ينتبه إلى أن النظام الذي يهدد بشكل كامل الجنس البشري هو الرأسمالية وليس الاشتراكية. إن ما يسمى باقتصاد السوق الحرة، الذي يهيم ترامب به حبا، هو الذي لم يخلق أي شيء سوى الحزن والدمار والفشل في العالم بأسره، خاصة منذ أن انهارت اقتصادات السوق على نحو مذهل منذ عشر سنوات مضت. ولم تكن مشاكل فنزويلا ناجمة عن الكثير من الاشتراكية، بل إنها، على العكس من ذلك، ناجمة عن قلة الإجراءات الاشتراكية.

لقد حققت الثورة البوليفارية الكثير فيما يخص إصلاح التعليم والإسكان والصحة (التي تعرف في الولايات المتحدة حالة بربرية لا تتلائم مع وضع بلد متقدم وثري، وفي ظل دونالد ترامب من المقرر أن تصير أسوأ بكثير). لكنها للأسف لم تصل إلى النتيجة المنطقية، أي: القضاء التام على الملكية الخاصة للأرض والبنوك والصناعات الرئيسية.

والنتيجة هي الوضع الفوضوي الحالي الذي تهدد فيه الفوضى الرأسمالية (إلى جانب التخريب المتعمد من طرف البرجوازية المعادية للثورة، بمساعدة من الإمبريالية الأمريكية) بتدمير الثورة ورمي المجتمع الفنزويلي إلى العصور المظلمة. ولكي يثبت السيد ترامب تأييده الحاسم لهذه القضية الهامة، طالب بفرض عقوبات على فنزويلا، من أجل التأكيد على أن "الاشتراكية" ستجلب معها دائما "استمرار معاناة الشعب"، إلى جانب "الحزن والدمار والفشل". وإذا لم تفشل بالسرعة الكافية، فإن واشنطن سوف تعطيها ركلة قوية لجعلها تفشل بشكل أسرع.

"أمريكا أولا"

تعتقد صحيفة الايكونوميست أن هذا كان "خطابا مخيفا، من المثير للقلق سماعه من رئيس أمريكي". لكن لماذا؟ لقد كان خطابا يكشف عن الجوهر الحقيقي للإمبريالية الأمريكية. لقد أظهر وجهها القبيح الحقيقي وجشعها وأنانيتها وطمعها. لقد عرى روحها الهمجية. إن أخلاقها هي أخلاق المجرمين المصممين على ارتكاب أي جريمة، مهما كانت بشعة، طالما أنها تخدم الهدف الرئيسي في حياتهم، وهي مراكمة الثراء على حساب الآخرين. وهذا بالضبط هو معنى "أمريكا أولا".

أعلن ترامب أن نموذجه المثالي هم الرواد الأميركيون الذين كانوا معتمدين على أنفسهم والذين قاموا ببناء بيوتهم الخشبية بأيديهم ولم يحصلوا أبدا ولو على سنت واحد من الرعاية الاجتماعية من الدولة. نسي أن يذكر القليل من التفاصيل وهي أنهم اقتلعوا من البرية ليس فقط الصبار والجاموس، بل أيضا الشعوب المسكينة التي سكنتها لمئات السنين قبل أن يوجد كولومبوس.

هذه الصورة الجميلة حول الاعتماد على الذات لا علاقة لها في الواقع بالحياة التي صارت الآن من الماضي وتنتمي إلى كتب التاريخ وينظر إليها بنظرة عاطفية. إنها انعكاس لروح الأنانية والجشع والفردانية المعاصرة التي تحرك أناسا مثل دونالد ترامب. الفكر القومي الضيق يتنكر تحت قناع الوطنية، والتي، كما نعلم، هي الملاذ الأخير للنذل.

إن اللامبالاة الباردة تجاه معاناة الإنسانية تخفي وجهها البشع وراء مطالبة الفقراء والمرضى والعجزة بالاعتماد على أنفسهم ووسائلهم الخاصة، على الرغم من أنهم لا يمتلكون أي وسيلة يعتمدون عليها. هذه هي فلسفة السوق الحرة التي تسمح للمرضى بالموت في الشارع بدلا من تقديم المساعدة الطبية لهم. وعوض قسم أبوقراط، الذي يعلن أن حياة جميع الناس مقدسة، تحل محفظة النقود ورصيد البنك.

لم يفعل نظام أوباما الصحي سوى القليل جدا لتغيير هذه الحالة الفظيعة. لكن حتى ذلك القليل هو أكثر من اللازم من وجهة نظر دونالد ترامب، الذي ينتزع العكاز من يد المعاق ويأمره بأن يقف على قدميه. تجد البرجوازية الليبرالية كل هذا "مزعجا ومثيرا للقلق". وذلك لأنهم لا يحبون أن ينفضح أمام الرأي العام الوجه الحقيقي للنظام الذي يدافعون عنه. إنهم يفضلون أن يبقى دائما خلف واجهة زائفة من الاعتدال والحلاوة والضوء. كان هذا هو معنى هيلاري كلينتون وباراك أوباما، اللذان من حيث الجوهر يقدمان نفس الدواء الذي يقدمه ترامب، لكنهما يعملان على إخفاء نكهته بإضافة جرعة جيدة من السكرين.

من خلال كونه صريحا جدا بخصوص الطبيعة الحقيقية للرأسمالية وأهدافها وأساليبها، قدم السيد ترامب خدمة حقيقية للعالم، على الرغم من أنه قام بذلك بشكل غير مقصود. أما بالنسبة إلى القصص الخيالية، فإن المرء ينهيها بأن يقول أن أبطالها في النهاية عاشوا جميعا سعداء، لكن في سياقنا هذا يجب علينا أن نبدي شكوكا معقولة...