في الدفاع عن الثورة السورية: الموقف الماركسي من الثورة، وما يزعم عن موقع الأسد من معاداة الامبريالية – الجزء الثاني

من أسباب البلبلة الحاصلة عند اليسار من جهة فهمه لطبيعة النظام السوري هو الطبيعة السابقة لهذا النظام. فبعد الانقلاب البعثي في 1960، تمت محاولة تقليد النموذج الستاليني في الاتحاد السوفياتي كنظام اقتصادي في سوريا. وبالرغم من كونه نموذجاً تقدميا بالنسبة للمقاييس التي اتبِعَت، فلم يكن أبداً نظاماً مرتكزاً على الديمقراطية العمالية. السلطة كانت في أيدي النخبة البيروقراطية، وهنا يكمن خطر انقلاب هذه المقاييس التقدمية والعودة إلى النمط الرأسمالي لعلاقات الإنتاج.

على كل حال، بالرغم من سيطرة البيروقراطية، استطاع الاقتصاد الموجه والوطني أن يخدم تطوير الاقتصاد في سوريا وانعكس ذلك أيضاً ارتفاعاً في مستويات المعيشة عند الطبقات الشعبية في سوريا لمدّة معيّنة.

  قبل هذه التجربة كانت الوحدة مع مصر، والتي لم تدم طويلا. تمت الوحدة في عام 1958 واستمرت حتى 1961. في العام 1957 كان في سوريا حزب شيوعي منظم بشكل جيد. ولكن، بإيعاز من عبد الناصر تم توجيه الحكومة السورية نحو القضاء على الشيوعيين.

في الحقيقة اعتبرت البرجوازية السورية الوحدة مع مصر كطريقة للجم التقدم الثوري في الداخل. كان هنالك دعما شعبيا للوحدة مع مصر نتيجة شعبية عبد الناصر، الذي رغم موقعه المعادي للشيوعية، قام ببرنامج تأميم وبإصلاحات تقدمية عديدة.

من السخرية، أن هذا البرنامج التأميمي الذي اتبعه عبد الناصر دفع الرأسماليين السوريين إلى العمل على كسر الوحدة لاحقا كطريقة للحفاظ على حكمهم وأملاكهم. في 28 أيلول 1961 قام ضباط الجيش بانقلاب وتم كسر الوحدة مع مصر. عدم الاستقرار الناجم أدى بحزب البعث عام 1963، عبر قطاعات من الضباط في سوريا، إلى الاستيلاء على السلطة من خلال انقلاب عسكري.

صعود نظام الأسد

في كانون الثاني عام 1965 قامت حكومة حزب البعث بتأميم 106 من أكبر المؤسسات الصناعية والمصارف. حاولت الطبقة الرأسمالية مقاومة هذا والقيام بثورة-مضادة. هذا الأمر أجبر حكومة البعث على التقرب من العمال والفلاحين من أجل كسب تأييدهم. بالنتيجة، ألوف الفلاحين أيدت الخطوات التي قامت بها الحكومة.

خلال هذه العملية، خُنِقَت الرأسمالية في سوريا وأنشئ نظام على النموذج السوفياتي الستاليني.

وهذا يعني أنه بينما تمت السيطرة على الاقتصاد من خلال الدولة وتم التخطيط له بشكل مركزي، لم تكن السلطة للعمال، بل لبيروقراطية تسيطر على العمال والفلاحين. في البداية، هذا أحدث نموا اقتصاديا ملحوظاً بلغ حوالي 80% في الستينيات وأكثر من 300% في السبعينيات.

منذ 1963 وحتى 1970، حدثت سلسلة من الصراعات والاغتيالات داخل المؤسسة العسكرية، نتجت عن صعود حافظ الأسد إلى الحكم. وبالتالي تأسست سلطة الحزب الواحد من خلال حزب البعث، منذ 1970 وحتى وقتنا هذا. عندما توفي حافظ الأسد في 2000، انتقلت الرئاسة لابنه، بشار الأسد، الذي مازال في سدة الحكم. مثَّل حافظ الأسد الجناح المحافظ من حزب البعث، وفي الحقيقة أوقف أي تقدم في خطة التأميم ووعد رجال الأعمال بحماية ملكيتهم. بالرغم من ذلك، فقد حَافظَ حافِظ الأسد على الصناعات التي قد تم تأميمها في العقدين الأوّلين.

بالرغم من زعمه أنه يمثل توجها اشتراكيا عربيا، فقد قام حزب البعث بمركزة الصناعات الوطنية في قبضة عصبة قليلة على رأس الهرم الاجتماعي. ولم يكن هناك أي نوع من الرقابة الديمقراطية على الاقتصاد من قبل العمال. قمع البعثيون السوريون أي محاولة من قبل العمال لبناء تنظيماتهم المستقلة، وبالأخص تم قمع التنظيمات الشيوعية بشكل عنيف.

بجميع الأحوال، منح الاقتصاد الوطني والتأميم مكاسب مهمة لصالح الجماهير (التوظيف، الحصول على البضائع الأساسية، المسكن، والخدمات...) وهذا أضفى بعض الاستقرار على حكم الأسد وكذلك وفّر له قاعدة دعم من قبل فئات شعبية مهمة منذ ستينات وحتى ثمانينات القرن الماضي. بالرغم من ذلك، أعطيت امتيازات واسعة للمحيط البيروقراطي حول العصبة المافيوية الحاكمة، هذه العملية كانت قد بدأت في ستينات القرن الماضي واستكملت خلال حقبة الأسد.

عندما سيطر حافظ الأسد على السلطة خلال السبعينيات، اعتمد بشكل كبير على استغلال وتحريض الانقسامات الطائفية داخل المجتمع السوري. هذه الانقسامات كانت قد عمدت الإمبراطورية العثمانية على خلقها وتقويتها، ومن بعدها أيضا الإمبريالية الفرنسية التي أعقبتها، اعتماداً للتكتيك المعروف "فرّق تسد". بالرغم من ذلك، أضفى الاقتصاد الموجَّه والتطوير الاقتصادي المتعاقب درجة من الاستقرار على المرحلة الماضية.

لكن ما كان هذا الوضع ليَدوم، عندما تجاوزت السلطة البيروقراطية شيئا فشيئا تحديداتها. خلقت حالة عدم الاستقرار الناتجة عن ذلك ضرورة لتأجيج الانقسام والتناقض الطائفي كوسيلة للحفاظ على السيطرة. هذه الانقسامات كانت بشكل أساسي بين الطائفة العلوية والأغلبية السكانية السنية، بالإضافة إلى الكتل المسيحية والكردية في البلد.

في الحقيقة استخدم الأسد ما يفترضه "علمانية" كوسيلة لإثارة الانقسامات الإثنية في سوريا، فقد ادعى أنه المدافع عن الأقليات الدينية في مواجهة الأغلبية السنية، مما سمح له بالحفاظ على قاعدة من التأييد ضمن الطائفة العلوية والمسيحية، واللتان تشكلان قسما هاما من عدد السكان (اليوم تشكلان سوية 20% من إجمالي العدد السكاني). هذه "العلمانية" الطائفية كانت تستخدم لكبح المجموعات المعارضة والأغلبية السنية. بالرغم من هذا المظهر العلماني المخادع، اعتمد الأسد أيضاً على الزعامات المسيحية والإسلامية للحفاظ على السيطرة على الجماهير الكادحة.

رأسمالية بشار الأسد والطبقية في المجتمع السوري

منذ بداية تسعينات القرن الماضي بدأ الحكم الأسدي بالانتقال إلى إحدى أكبر سياسات تحرير السوق (اللبرلة) من أجل التشجيع على الاستثمار الخارجي في سوريا، ومن أجل توسيع امتداد القطاع الخاص. وهذه العملية تم تسريعها تحديداً منذ عام 2000 مع توسيع القطاع المصرفي الخاص والاستثمار. العصبة البيروقراطية الحاكمة، بترؤسها معظم الاقتصاد المؤمم، أدركت أنه بمقدورها زيادة ما تنهبه من خلال توسيع استثمارها الرأسمالي داخل البلد.

هذه الحركية الاقتصادية باتجاه التوسع الرأسمالي في سوريا حدثت في ظل سقوط الاتحاد السوفياتي وفي ظل عودة النظام الرأسمالي في مجموعة الدول الشرقية (1989-91). فوجد حافظ الأسد نفسه، حليف البيروقراطية الروسية، في أعقاب ذلك بدون قوة عظمى يمكنه الاستناد عليها.

العصبة الحاكمة في سوريا، استلهمت النموذج الصيني لاستعادة الرأسمالية، فبدأت بإجراء إصلاحات مشابهة من خلال برامج الخصخصة، بدئا بالاستعانة بالأموال الخارجية والانفتاح على الغرب والدول الامبريالية الأخرى. الدولة البيروقراطية السابقة، كما حصل في الصين، انتقلت من الارتكاز على نظام موجه تملكه الدولة، نحو خصخصة قطاعات الدولة بشكل يتلاءم مع مصلحة أعضاء العصبة الحاكمة نفسها، وتم السماح للـ"سوق الحرة" بالنمو. كنتيجة لسياسة الانفتاح الاقتصادي الليبرالي هذه، تزايدت الهوّة بين طبقة الأغنياء والفقراء في سوريا بشكل هائل.

إن الإحصائيات تؤشر أن نسبة السوريين الذين يعيشون دون خط الفقر تتراوح بين 33% و40%، والنسبة التي تعاني من "الفقر الشديد"، والذي يُعرَّف بعدم القدرة على تأمين معظم الحاجات الأساسية للحياة، تبلغ حوالي 13%. نسبة البطالة ارتفعت بشدة إلى 20%، وهي أعلى من ذلك بكثير لدى الشباب. وسبب هذا بالتحديد هو سياسة الخصخصة، والتي أدّت بالبنك العالمي للتعبير عن ارتياحه لديكتاتورية الأسد. إن الغضب الناتج عن تزايد الهوّة الطبقية هو عامل مهم جدا لتحريض الثورة التي اشتعلت في 2011.

إن سياسة الانفتاح الاقتصادي تشكل بوضوح تناقضاً مباشرا مع أي رصيد "تقدمي" تنسبه بعض القوى، المفترَض أنها يسارية، لحكم الأسد. إن انفتاح السوق السورية على الشركات الأجنبية جعلت الامبرياليين يتوافدون نحو الأسد. على سبيل المثال، شركة سنكورب (Suncorp)، وشركة الطاقة الكندية التي تملك بترو-كندا، استثمرتا حوالي 1,2 مليار دولار في استخراج الغاز السوري. من الشركات الاستثمارية الهامة الأخرى في سوريا رويال دوتش شال (Royal Dutch Shell) (المملكة المتحدة، الشركة الصينية الوطنية للبترول (China National Petroleum Company)، توتال (Total S.A.) (فرنسا)، Stroytansgaz (روسيا) وشركة النفط والغاز الهندية (the Oil and Gas Corporation). شركات تصنيع السيارات الإيرانية، كمجموعة سايبو مثلا، استثمرت في مصانع لتصنيع السيارات في سوريا. وحدث أيضا توسع هائل في القطاع المصرفي الخاص مع مستثمرين كبار بمن فيهم البنوك السعودية والكويتية الكبرى. بالإضافة إلى ذلك، ترتبط سوريا بروسيا حيث تؤمن سوريا المجال البحري لروسيا في المنطقة وأيضاً تشتري كمية هامة من العتاد العسكري منها. إن سياسة الانفتاح التي اعتمدها نظام الأسد تجاه الشركات الأجنبية تتعارض بشكل مباشر مع الرؤية التي تزعم له موقفا معاديا للامبريالية.

يعتبر رامي مخلوف من أقوى الأفراد ذوي السلطة الفعلية في سوريا ومن الدائرة المقربة جدا من الأسد. لديه سيطرة شبه كاملة على معظم عمليات الاستثمار الأجنبي في سوريا، ويملك سيرياتل، الشركة الأكبر للاتصالات في سوريا. بحسب الفاينانشال تايمز، يسيطر رامي مخلوف على 60% من الاقتصاد السوري، مع فوائد ربحية من الاتصالات، البترول والغاز، البناء والاستثمار العقاري، القطاع المصرفي، خطوط الطيران...

أحدثت عصبة الأسد تغييرات هامة في الاقتصاد السوري لتتمكن من توسيع أملاكها الخاصة. وهذا صنع طبقة صغيرة من السوريين ذوي الثراء الفاحش.

أصبحت سوريا مجتمعا رأسماليا حيث الثروة الاقتصادية العظمى تتراكم في أيدي عصبة مافيوية حول حكم الأسد. تحققت الخصخصة بدرجة كبيرة عبر انتقال أفراد السلطة الحاكمة إلى ملكيّة القطاعات المهمة من الاقتصاد والقطاع الخاص. ولكن، عملية الانفتاح هذه لم تكتمل بعد، ولازال قسم مهم من الاقتصاد تابع للقطاع العام.

هذا يعني وجود طبقة جديدة استفادت من استقدام العلاقات الرأسمالية، ولكن أيضاً يوجد طبقة تستفيد من وجود القطاع العام الموجود منذ السابق. الطرفين أمدّوا الأسد إلى درجة ما بالدعم. وأما بالنسبة للأغلبية الساحقة من الناس، فمكتسباتها من العهد السابق كان قد فُرطَ بها.

النتيجة هي وضع يهمل مصلحة الأغلبية الساحقة من السوريين، بينما تُصان أرباح الاستثمارات الكبرى (بما فيها الامبريالية منها). إن أولئك الذين يصرون على أن نظام بشار الأسد هو نظام معاد للامبريالية هم من يغرقون في أوهام مريعة في نظرتهم للمجتمع السوري.

علاقة الأسد بالإسرائيليين وبالامبريالية الأميركية

حافظ الأسد أولا، ومن بعده ابنه بشار، دخلوا في تحالفات بانتظام مع الدول الامبريالية الغربية. فقد لعب النظام السوري دوراً كبيراً في الثورة المضادة لقمع الانتفاضات الجماهيرية في لبنان بالتحالف مع القوى الامبريالية الإقليمية، وقد كان شريكاً حقيقيا لجورج بوش الأب في غزوه للعراق في 1991 ولعب دورا في التعاون فيما يسمى "الحرب على الإرهاب". بعيداً من الصورة التي ينسبها بعض "اليسار" للأسد كمعادٍ للامبريالية، فقد كان من الشركاء الإقليميين للامبريالية وقد لعب دوراً تدميراً للحركات اليسارية في المنطقة، وخصوصاً في لبنان.

خلال الحرب الأهلية، 1975-1990، النظام السوري ومن يدور في فلكه، تورّط في هجوم مباشر للقضاء على الحركات اليسارية الثورية في لبنان، ممثلةً تحديدا بالجناح اليساري للمجموعات الفلسطينية، والحزب الشيوعي اللبناني. دعم الأسد الجناح اليميني للمارونية السياسية الحاكمة في لبنان والجماعات اليمينية المتطرفة، والتي استُخدمت لإغراق الحركة بالدم.

شكلت الحركات اليسارية في الدول المجاورة تهديداً حقيقيا يمكن أن يمتد لسوريا. الأسد أراد أيضا أن يؤسس ويركّز تأثيره في لبنان. الجيش السوري، والقوى المحلية المستندة على دعم النظام السوري شاركت بشكل مباشر في الحرب الأهلية. وقد عمل النظام، وحلفائه في الداخل اللبناني، على إذكاء الانقسامات الطائفية، كما فعل الأسد في بيته الداخلي، سوريا. خلال منتصف وحتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، استطاع النظام لجم قوة الحزب الشيوعي اللبناني والفصائل الفلسطينية الثورية. بعد نجاحه في تدمير التنظيمات اليسارية في لبنان، عاد لتدمير المجموعات اليسارية في سوريا، ومن ضمنها حزب العمل الشيوعي والحزب الشيوعي السوري.

بالرغم من توتر العلاقة بين سوريا والدولة الصهيونية، وأحياناً التصارع بينهما، اشتركتا في السيطرة على لبنان، وفي إغراق الحركات الثورية بالدم.

تجسدت إرادة التعاون مع الامبريالية عند حافظ الأسد عندما تحالف مع جورج بوش الأب خلال غزوه للعراق بعد دخول صدام للكويت. القوات السورية دعمت الهجوم الذي قادته الولايات المتحدة للعراق. لم تدخل القوات العسكرية السورية في معارك مباشرة، بل قدّمت الدعم اللوجستي وشكّلت المجموعات الاحتياطية للقوات الغازية. أكثر من مئة ألف عراقي قُتلوا في هذه الحرب الامبريالية.

منذ بدأت حملة "الحرب على الإرهاب" في 2001، قدّم النظام السوري نفسه كحليف إقليمي للولايات المتحدة. حكومتي الولايات المتحدة وكندا بدأتا تترصدان وتستهدفان المجموعات "الإرهابية". هذه الجهود تضمنت الاستهداف الموسّع واضطهاد شعوب المنطقة العربية. والنظام الأسدي، مع خبرته الواسعة في قمع الإخوان المسلمين في سوريا، كان يعتبر حليفا مناسبا.

إن قضية السيد عرار، الكندي السوري، الذي تم تعذيبه في سوريا هو مؤشر أيضا يفضح كذبة معاداة الامبريالية من قبل نظام الأسد. في 2003 تم خطف السيد عرار، المواطن الكندي، خلال عطلته أثناء السفر. وضعت تقارير من قبل وكالة الاستخبارات المركزية وبالتعاون مع الاستخبارات الكندية، عن الاشتباه بضلوعه في نشاطات إرهابية. تم نقله من قبل وكالة الاستخبارات المركزية إلى سوريا للتحقيق معه. احتجِزَ عرار وعُذِّبَ في سوريا لمدة سنتين إلى أن تبيّن أنه لم يكن له أي علاقة أو صلات بأي تنظيمات "إرهابية".

موقع الماركسيين من الثورة السورية

يمكننا اعتبار الثورة السورية عملية شديدة التناقض. كأي ثورة، الملايين من الناس يدخلون العمل السياسي للمرة الأولى. مضت سنة على بداية التحركات الشعبية، والجماهير أبدت درجة عالية من البطولة في مواجهة همجية النظام. المطالب التي يتم رفعها من قبل الحراك، في هذه المرحلة، هي مطالب ذات صبغة ديمقراطية إلى حد بعيد.

الفقر المنتشر والشديد، البطالة وارتفاع كلفة المعيشة، مترافقة مع التفاوت الطبقي الشديد والبذخ الهائل الذي تظهره الفئة الحاكمة التي تدور في فلك النظام كانت العوامل الكبرى التي أدت لقيام الثورة. في المرحلة الحالية، تنظر الجماهير لمطلب الديمقراطية كوسيلة يمكن من خلالها تحسين الظروف المعيشية لها.

في الحقيقة، القمع الذي يقوم به جيش الأسد خلال الأشهر الأخيرة الماضية تركّز على الأحياء الفقيرة المكتظة بالطبقة العاملة، هو مؤشر قوي للمكوّن الطبقي للحراك. حقيقة أن المتظاهرين قاموا بمهاجمة ممتلكات العصبة الحاكمة، مثل شركة سرياتل التي يملكها رامي مخلوف، يظهر الغضب المشتعل تجاه هذا التفاوت الطبقي.

في محاولة لمواجهة السقوط، يحاول الأسد بيأس تقديم بعض "التنازلات". البعض منها له صبغة ديمقراطية، كالالتزام بإجراء انتخابات. والجدير بالذكر أن تنازلات الأسد للثورة تحمل، مع ذلك، طابعاً اقتصاديا أيضاً، كزيادة الأجور، والمزاعم بـ"اعتزال" رامي مخلوف العمل الاستثماري، ورغبته في توزيع ثروته على أعمال الخير والإحسان !

هذه الحقائق تظهر كيف أن المطالب الديمقراطية، في عيون الجماهير المفقَرة وفي صفوف الطبقة العاملة السورية، مرتبطة بالاحتياجات الاقتصادية الضاغطة. إن حكم الأسد يعي ذلك بشكل جيد. وهذا هو السبب الذي يدفع الفئات الشعبية لوهم الديمقراطية البرجوازية، كما حدث في مصر، وتونس وليبيا أيضا. تساوي هذه الجماهير بين "الديمقراطية" والعدالة الاجتماعية.

بشكل واضح، استمر الحراك في التعمّق - بالرغم من الهجوم المريع على حمص والمناطق الأخرى. إن التوسع الأفقي للحراك، نحو حلب ودمشق، ونشوء وتطور الجيش السوري الحر، شد من عزيمة المقاومة لدى هذا الحراك.

إن إنشاء المجالس الشعبية حيث أمكَنَ للناس تأسيس سيطرة تستبدل مؤقتا النظام القديم للدولة، هو بالفعل تطوّر هام جدا. ولكن حتى الآن، لم تدم هذه المجالس إلا لفترات قصيرة وفي أماكن محدودة من الوطن.

لكن، بالرغم من تعمّق هذا الحراك، فهو يعاني من ارتباك ملحوظ في اللحظة الحالية. ذلك أن معظم القوى التي تدعي تمثيل المعارضة، تتشكل من الإخوان المسلمين والتنظيمات البرجوازية الليبرالية. وهي القوى التي تسيطر على المجلس الوطني السوري. هؤلاء الذين يضعون أنفسهم في مقام "قادة" الثورة يتورطون في صفقات مع الحكومات الغربية.

هذه "القيادة" لعبت دوراً سلبيا ومدمّرا للحراك الثوري. لم تقدم برنامجاً متماسكاً يلبي المطالب الاقتصادية والسياسية، وقد تجاهلت بشكل كبير الجوانب الاقتصادية التي حملت الناس للنزول إلى الشوارع في بدء الأمر. وهذا يعكس موقعها البرجوازي. والعديد من هؤلاء يمارس لعبة الأسد أيضا بالتهويس للانقسامات الإثنية والطائفية، ولكن من الجانب الآخر. وكما شرحنا سابقا، دعا المجلس الوطني السوري لتدخل أجنبي في سوريا،

المشكلة ليست، على أي حال، أن المجلس الوطني يفتقد لبرنامج سياسي. بل المشكلة تكمن في طبيعة برنامجه وهو البرنامج السياسي لديمقراطية برجوازية تحت رعاية الولايات المتحدة. هذا البرنامج الرجعي والذي ينفّر الكثيرين من المعارضة، كما أن هناك عدم ثقة بليبراليي المنفى هؤلاء، الموظفين لدى الولايات المتحدة، عند الداعمين لحكم الأسد وعند الذين هم منضويين بشكل فعلي في الثورة ضد الأسد!

لذلك، أضعف البرنامج السياسي البرجوازي للمجلس الوطني، ونظرته الضيقة وموقعه المؤيد للامبريالية، الحراك الثوري بشكل هائل. العديد من الفئات التي أرادت أن تنضم لصفوف الثورة أخذت تتردد بسبب هذه القيادة المزعومة، التي تستلب فئات كبيرة من المجتمع السوري، وتجعل من السهل للأسد أن يحافظ على فئة تحيطه بالدعم.

ببساطة، لا يقدم المجلس الوطني السوري أي بديل ذو معنى للوضع القائم. إن فشل القيادة هذا يطيل فترة الثورة، وقد دفعت الفئات الشعبية ثمناً غاليا لهذا الفشل. بالفعل، إن المجلس الوطني يضع الثورة في خطر، وفي الحقيقة إنه يحاول أن يدفع بالثورة المضادة إلى الأمام.

إن تجربة المجلس الوطني العراقي، والشلبي، هي مثال جدير بالانتباه. كان المجلس الوطني العراقي عميلا للولايات المتحدة في العراق، والذي وقع الآن في أسر أصولية الصَّدر. علينا أن لا ننسى أنه كان هناك حراك ثوري في العراق أيضا، ولكن هذا الحراك قمع بالتدخل الامبريالي، ومن قبل صدام، ومن قبل الحزبين الرجعيين الكرديين من جماعة البرزاني والطالباني.

يوجد أيضاً عامل آخر علينا التنبه له، وهو أن العصبة الحاكمة في السعودية، وفي قطر، لديها أجندتها الخاصة في سوريا. لديهم رغبة في انهيار نظام الأسد لأن هذا سوف يضعف إيران. السعودية وقطر كلاهما لعبا دورا مهما في ليبيا وتونس في الدفع بعملائهما هناك. يبدو من الواضح أنه هنالك تسليح وتدريب لعناصر تابعة لهما في داخل المعارضة، تتهيأ لمرحلة ما بعد سقوط الأسد. وهذا في الحقيقة ما يتخوف منه الكثير من السوريين، أن الثورة سوف تأتي بقوى كالإخوان المسلمين في سدة الحكم في سوريا.

هذا الخوف قد زادته قطيعة حماس مع النظام السوري وانحيازها للثورة، حيث سحبت قياداتها من دمشق. وهذا قد يعني أيضا أنها تسعى لتحول الثورة في الاتجاه الإسلامي الأصولي، الأمر الذي قد يضعف الثورة أكثر.

مع أن الظروف مختلفة تماما، علينا أن نتعلم درسا من الحرب الأهلية الاسبانية، حيث أن الثورة أو الانتفاضة على فرانكو سيطرت عليها عناصر برجوازية. عندما حدث ذلك، أفرغت الثورة من مضمونها الاجتماعي، وكل ما بقي فيها هو فريقين برجوازيين. بالواقع، في كتابه الشهير حول الحرب الأهلية الاسبانية، كتب المؤرخ هوغ توماس الفصل الأول عن الانتفاضة والثورة"، ولكن الفصل التالي سمّاه "الحرب بين الثورتين المضادتين". بمجرد ما أصبحت الحرب فقط من أجل الدفاع عن الديمقراطية البرجوازية مقابل الفاشية، مجردة من عناصرها الطبقية، كتأميم الأراضي والمصانع، فقدت القدرة على جمع الجماهير كقوة موحدة.

في سوريا اليوم، يوجد فراغ كبير على مستوى اليسار. إن التنظيمات الشيوعية التي كانت قوية يوما ما، أضعفتها سياساتها الستالينية. كما رأينا، خيانة الحزب الشيوعي السوري للثورة، الحزب الذي يعمل كمحامٍ دفاع يدعم نظام الأسد ووجوده الطويل في الجبهة الوطنية التقدمية، ينعكس في موقفه المساند تماماً للثورة المضادة حاليا.

هذا يزيد من صعوبة مهمات الماركسيين الحقيقيين، لأنهم أولا بحاجة لشرح كيف أن بعض "الشيوعيين" ليسوا مع الثورة، ويمايزوا أنفسهم عنهم، ومن ثم شرح الموقف الماركسي الحقيقي من الثورة السورية. إن الماركسيين هم جزء من الحراك الثوري في سوريا. وفي الوقت نفسه، نحن نشرح برويّة وصبر الدور السلبي الذي لعبه من زعم قيادة هذا الحراك، وتحديدا المجلس الوطني السوري. علينا أن نقدم نظرتنا الثورية الحقيقية، التي سوف تساهم في انتصار الثورة والتي سوف تحل المسائل الحياتية الضاغطة على العمال والمزارعين السوريين، والشباب، والعاطلين عن العمل.

عارض التدخل الأجنبي!

علينا أن ندرك تماما أنه لا يمكن للامبريالية أن تلعب أي دور إيجابي في سوريا. ونحن نرفض بشكل قاطع أي تدخل امبريالي في القضايا السورية. إن التدخل الهمجي في لعراق وأفغانستان أدى إلى مصرع مئات الآلاف من المدنيين، وحيث لم يحصل أي تقدم من أي نوع على مستوى المعايير الحياتية للناس، الإصلاحات الديمقراطية، حقوق المرأة أو أي تطور اقتصادي. كل ما أتت به الامبريالية هو الحروب الأهلية والصراعات الطائفية، بينما حصلت الشركات الكبرى على أرباح هائلة من ثروة النفط، إعادة الإعمار، صناعة الأسلحة....

خلال النضال الثوري في تونس، مصر، والبحرين، دعم الامبرياليون أنظمة الحكم القديم، وأمدوها بالعتاد العسكري. لازالت الولايات المتحدة وكندا ترسل الأسلحة والغاز المسيل للدموع للمجلس العسكري المصري بقيادة الطنطاوي. وكذلك السعودية لازالت المشتري الأكبر للسلاح الغربي، بينما قمعت السعودية الثورة في البحرين بشكل وحشي.

كما رأينا، النظام السوري مرتبط مباشرة بالنظام في روسيا وإيران. وكان أيضا شريكا مع الولايات المتحدة والامبريالية الإسرائيلية. يجدر القول أنه في هذه اللحظة يبدو أن الامبرياليات الغربية تتردد بشدة في التدخل المباشر في سوريا وقد اكتفت حتى الآن بلوم النظام السوري وبزرع عملائها.

إن تصريح الجنرال دمبسي الذي يدين الجيش السوري الحر هو مؤشر على الشكوك التي لدى الدول الغربية حول الثورة. سوف يستمر الغرب بمناوراته المضادة للثورة من خلال أصدقائه في المجلس الوطني السوري.

على الشعب أن يشجب هذه المحاولات من قبل الامبرياليين. إن مصالح الامبرياليين هي مصالح معاكسة وغير قابلة للتوافق مع مصالح العمال والمزارعين والشباب في الشرق الأوسط. إن الامبرياليين يسعون لنهب موارد المنطقة وتأمين سوق لبضائعهم. إن الجماهير في المنطقة تنهض وتثور تحديداً بوجه هذا النهب وعدم المساواة والتفاوت الطبقي. والوعي الجماهيري والوعي الثوري الذي حرضه الربيع العربي يهدد المصالح الامبريالية. لا يجب أن نغرق في أية أوهام عن دور ايجابي للامبريالية. نقول على الامبريالية أن ترفع يدها عن الشعب السوري وأن الشعب هو الذي سيسقط الأسد.

الطريق التي يجب ان تسلكها سوريا؟

إن "القادة" الرسميين الحاليين للتحرك نجحوا في معاكسة فئات مهمة من الناس التي كان يجب استمالتها نحو الثورة. الثورة تتقدم ببطء والسبب تحديداً هو غياب هذه الشرائح الاجتماعية والتي يحب أن تكون في قلب الثورة. هذه الحقيقة كانت بسبب عدة عوامل، من بينها الطبيعة البرجوازية للمجلس الوطني، وتعاونه مع الامبريالية، لا يزال يحظى الأسد بدرجة من الدعم، وهو الذي استطاع استخدام الانقسامات الإثنية والطائفية لصالحه.

كل ذلك يؤكد أهمية وجود قيادة حاسمة التي تستطيع أن تقدم برنامجاً متكاملا يجيب عن الأسئلة الاقتصادية والسياسية، ذو طبيعة ديمقراطية واشتراكية، وبالتالي العبور فوق الانقسامات الطائفية. إن عدم وجود هكذا برنامج هو حقا أكبر نقطة ضعف لثورتنا.

في الحقيقة، بعض "قيادات" المعارضة تظهر الثورة بصورة طائفية ودينية. إن تصوير الحراك الثوري كحراك "إسلامي" يبعد الكثير من الاثنيات والطوائف بعيدا عن الحراك، وكذلك قسم مهم من العلمانيين والتقدميين في سوريا، وخصوصا في حلب ودمشق. إن حرب الثورة المضادة التي يقوم بها نظام الأسد هي ليست حربا بوجه الإسلام، إنها حرب بوجه الشعب السوري، ولكن بسبب طبيعة "قادة" المعارضة، يتم تصويرها هكذا.

إن التركيز على المطالب الاقتصادية الاجتماعية سوف يبرهن أنها هي التي سوف تحسم المسألة، وسوف تجعل الثورة تتجاوز الانقسامات الإثنية والدينية. وهذا من المفترض أن يتم إعادة تأميم كل الصناعات التي تم خصخصتها، تأسيس سلطة العمال الديمقراطية على أماكن العمل، انتزاع أملاك شركات عصبة الأسد وإعادة الدعم على المواد الأساسية. إن المطالب الأساسية في التوظيف والتشغيل، تلبية الاحتياجات اليومية والخدمات، يجب أن تتصدر الثورة.

هؤلاء "القادة" الذين يرفضون أن يبرزوا المطالب الاقتصادية بسبب مصالحهم الاقتصادية الشخصية، يجب أن يستبدلهم الشعب بممثلين حقيقيين عن الشعب الثائر. إن القادة الحاليين يستخدمون الثورة فقط بشكل انتهازي من أجل تلبية مصالحهم الشخصية والحفاظ على الشكل القديم للنظام والفوارق الطبقية.

أظهر الشعب السوري حسا ثوريا عظيما. إن الأمثلة عن تأسيس المجالس الشعبية لاستبدال جهاز الدولة القديم، ولتنسيق الحياة الاجتماعية والاقتصادية يظهر ذلك. إن إنشاء الجيش الثوري، من قبل جموع الجنود المنشقين، والمدنيين الذين حملوا السلاح، كان خطوة حقيقية للأمام، ولكن إلى أن يترافق هذا مع برنامج اشتراكي ثوري تبقى الثورة محدودة، وسوف لن يتسنى لها التعبير عن قدرتها الهائلة على ذلك.

إن عدم وجود قيادة ثورية حقيقية للحراك سوف ينتج معاناة صراع دموي. في الحقيقة إن الأحداث الأخيرة في حمص وغيرها من المناطق تؤكد ذلك. إن القيادة الحالية تكرر نداءاتها نحو "الوحدة" بوجه أي انتقاد. في الحقيقة، بحجة الوحدة، يحاولون قمع المعارضة الحقيقية. في الحقيقة هؤلاء القادة السياسيين هم الذين يسببون الانقسامات في الحراك.

إن قيادةً حقيقية للثورة يجب أن تتخطى الانقسامات الطائفية، تعارض أي تدخل أجنبي وتدفع بالمطالب والاحتياجات الاقتصادية الاجتماعية نحو الأمام.هذه هي القيادة التي تستطيع أن توحد الفئات المختلفة في الحراك، وهي التي تستطيع أن تكسب وتحافظ على الأغلبية التي تستطيع أن تنهي نظام الأسد الهمجي المتوحش، وتأسيس اشتراكية ثورية في سوريا.

Translation: Marxy.com (Morocco)