بيان التيار الماركسي الأممي حول الثورة العربية - الجزء الأول: ثورة حتى النصر!

تعتبر الثورة العربية مصدر إلهام للعمال والشباب في كل مكان. لقد هزت كل بلدان الشرق الأوسط من أساساتها ويمكن الشعور بارتداداتها في جميع أنحاء العالم. تمثل هذه الأحداث الملحمية نقطة تحول حاسمة في تاريخ البشرية. وليست هذه الأحداث ظواهر معزولة عن السيرورة العامة للثورة العالمية.

إن ما نشهده أمامنا هو افتتاح المراحل الأولى للثورة الاشتراكية العالمية. وسوف تنطلق نفس السيرورة العامة في جميع أنحاء العالم وإن بإيقاعات مختلفة. ستكون هناك حتما فترات صعود وهبوط، وكذلك هزائم وانتصارات، وخيبات أمل، وكذا نجاحات. يجب علينا أن نكون مستعدين لذلك. لكن الاتجاه العام سيكون في اتجاه تسارع أعظم للصراع الطبقي على النطاق العالمي.

إن الحركة الرائعة للجماهير في تونس ومصر ليست سوى البداية. لقد صارت التطورات الثورية على رأس جدول الأعمال ولا يمكن لأي بلد أن يعتبر نفسه في مأمن من السيرورة العامة. إن الثورات في العالم العربي هي تعبير عن أزمة الرأسمالية على الصعيد العالمي. وتظهر لنا الأحداث في تونس ومصر مستقبل البلدان الرأسمالية المتقدمة كما تظهر الصورة في المرآة.

تونس

كانت تونس تبدو البلد العربي الأكثر استقرارا. كان اقتصادها مزدهرا وكان المستثمرون الأجانب يجنون أرباحا ضخمة. كان الرئيس زين العابدين بن علي يحكم بقبضة من حديد. وكان كل شي يبدو وكأنه يسير إلى الأفضل في أفضل العوالم الرأسمالية الممكنة.

يقتصر نظر المحللين البرجوازيين على سطح الأحداث ولا يرون السيرورات التي تجري في أعماق المجتمع. ولهذا لم يتمكنوا من رؤية السيرورات التي تجري في شمال أفريقيا. لقد أنكروا أية إمكانية لحدوث الثورة في تونس. والآن يقدم جميع الاستراتيجيين والاقتصاديين والأكاديميين و"الخبراء" البرجوازيين الدليل على حيرتهم.

اشتعلت البلاد بعد قيام الشاب العاطل عن العمل محمد البوعزيزي بإحراق نفسه. سبق لهيغل أن أشار إلى أن الضرورة تعبر عن نفسها من خلال الصدفة. لم تكن هذه هي حالة الانتحار الوحيدة التي يقوم بها شاب عاطل عن العمل ويائس في تونس. لكن في هذه المرة كانت لها آثار غير متوقعة. حيث اندفعت الجماهير إلى الشوارع وأشعلت الثورة.

كان أول رد فعل قام به النظام هو محاولة سحق الانتفاضة بالقوة. وعندما لم ينجح هذا الخيار، لجأ إلى تقديم التنازلات، والتي لم تؤد إلا إلى صب البنزين على النار. فقمع البوليس الوحشي لم يوقف الجماهير. ولم يلجئ النظام إلى استخدام الجيش لأنه لم يكن في مقدوره استخدامه. إذ أن اشتباكا داميا واحدا كان سيحول الجيش إلى أشلاء.

شنت الطبقة العاملة التونسية موجة من الإضرابات الجهوية المتواصلة، والتي توجت بإضراب وطني. عند هذه النقطة اضطر بن علي إلى الفرار نحو السعودية. وقد كان هذا أول انتصار للثورة العربية. وهو ما غير كل شيء.

عندما هرب بن علي، حدث هناك فراغ في السلطة كان لا بد أن يملئ من قبل اللجان الثورية. تمكنت هذه اللجان من أخذ السلطة على الصعيد المحلي وفي بعض الأماكن على الصعيد الجهوي أيضا. ففي الرديف، في الحوض المنجمي، لم تكن هناك أية سلطة أخرى غير سلطة النقابات. أحرق مركز الشرطة، وفر القاضي، وتم الاستيلاء على مقر بلدية المدينة من طرف الفرع المحلي للنقابة، التي جعلت منه مقرا لها. كانت تعقد الاجتماعات الجماهيرية في الساحة الرئيسية وكان قادة النقابة يخاطبون الشعب بانتظام. وشكلوا لجانا لتسيير أمور النقل، والنظام العام، والخدمات المحلية وغيرها.

لم تكن الجماهير راضية بالانتصار الأولي الذي حققته كما أنها لم تهدأ. وقد خرجوا بأعداد هائلة للاحتجاج في الشوارع ضد كل محاولات إعادة النظام القديم تحت اسم آخر. كل الأحزاب القديمة فقدت مصداقيتها تماما. وعندما حاول الغنوشي تعيين ولاّت جدد في الجهات، رفضهم الشعب. خرج مئات الآلاف للتظاهر فصار من الضروري إقالتهم.

في تونس لم تبرد حمم الثورة بعد. العمال يطالبون بمصادرة ثروة عائلة بن علي. وبالنظر إلى أنها كانت تسيطر على قطاعات واسعة من الاقتصاد، فإن هذا يشكل تحديا مباشرا لسيادة الطبقة الرأسمالية في تونس. إن مصادرة ممتلكات زمرة بن علي مطلب اشتراكي.

قام العمال التونسيون بطرد المدراء الفاسدين. دعت حركة 14 يناير اليسارية إلى عقد جمعية وطنية للجان الثورية. إنه مطلب صحيح لكن لم تتخذ لحد الآن أي خطوة ملموسة لتنفيذه. وبالرغم من غياب القيادة ما زالت الثورة تواصل تقدمها بخطوات عملاقة، حيث أسقطت الغنوشي ورفعت الحركة إلى آفاق جديدة. يجب أن يكون شعارنا هو: ثورة حتى النصر!

الثورة المصرية

لقد فتحت تونس باب الثورة العربية، لكنها بلد صغير على هامش المنطقة المغاربية. لكن مصر، على العكس من ذلك، بلد كبير يضم 82 مليون نسمة، ويقف في قلب العالم العربي. وقد أظهرت طبقتها العاملة الكثيرة العدد والمكافحة طبيعتها الثورية خلال مناسبات كثيرة. لقد كانت الثورة المصرية بلا شك انعكاسا لتأثير الثورة التونسية، لكنها كانت أيضا نتيجة لعوامل أخرى: ارتفاع نسبة البطالة، وانخفاض مستويات المعيشة، والكراهية تجاه حكومة فاسدة وقمعية.

لعبت تونس دور المحفز. لكن المحفز يمكن أن يعمل فقط عندما تكون كافة الشروط الضرورية موجودة. لقد أظهرت الثورة التونسية ما الذي يمكن تحقيقه. لكن سيكون من الخاطئ تماما أن نفترض أن هذا هو السبب الوحيد، أو حتى السبب الرئيسي. لقد نضجت بالفعل الظروف لحدوث انفجار ثوري في جميع هذه البلدان. كل ما كان مطلوبا هو شرارة واحدة لإشعال برميل البارود. وقد وفرتها تونس.

أظهرت الحركة في مصر البطولة المذهلة للجماهير. ولم تستخدم قوات القمع الرصاص ضد المظاهرات خوفا من تكرار السيناريو التونسي. تصور النظام أنه سيكون كافيا، كما في الماضي، قمع بعض القادة. لكن ذلك لم يكن كافيا. فالمزاج قد تغير. لقد تغير الكم إلى كيف. تم التخلص من الخوف القديم. وهذه المرة لم يكن الناس بل رجال الشرطة هم الذين اضطروا إلى الفرار.

أدى هذا مباشرة إلى احتلال ميدان التحرير. فأرسل النظام الجيش، لكن الجنود تآخوا مع الجماهير. يتألف الجيش المصري من المجندين. الجنرالات فيه وأصحاب الرتب العليا فاسدون. إنهم جزء من النظام، لكن القواعد ينحدرون من صفوف العمال والفلاحين الفقراء. وينحدر الضباط الصغار والمتوسطون من بين صفوف الطبقة الوسطى وهم منفتحون على ضغوط الجماهير.

طالبت أحزاب المعارضة بالإصلاحات، بما في ذلك حل البرلمان المشكل في شهر دجنبر الماضي بعد انتخابات مزورة، وإجراء انتخابات جديدة، والتزام الرئيس مبارك بعدم الترشح لا هو ولا ابنه في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في شتنبر المقبل. لكن القيادة في الواقع كانت متخلفة جدا عن الجماهير. لقد تجاوزت الحركة بكثير هذه المطالب. فالشعب الثوري لم يقبل بأي شيء أقل من الرحيل الفوري للرئيس مبارك وتفكيك كامل لنظامه.

إن المتظاهرين الذين ابتدئوا بمطالب أولية مثل وضع حد لقوانين الطوارئ، وطرد وزير الداخلية، والرفع من الحد الأدنى للأجور، والذين شجعهم تكاثر أعدادهم رفعوا سقف شعاراتهم إلى مستوى أعلى وأكثر ثورية: "يسقط مبارك!"، "الشعب يريد إسقاط النظام!"، أو ببساطة: "ارحل!"، وبهذه الطريقة، ارتفع الوعي الثوري للجماهير بطفرات سريعة.

الدولة والثورة

من غير المجدي محاولة تفسير ما يجري في مصر وتونس دون نقاش الدور المركزي للجماهير، التي كانت القوة المحركة للأحداث من البداية حتى النهاية. يحاول "الخبراء" البرجوازيون والبرجوازيون الصغار الآن التقليل من أهمية العمل الذي تقوم به الجماهير. إنهم يرون فقط ما يحدث في القمة. بالنسبة لهم ليست المسألة سوى "انقلاب"، سوى "استيلاء للجيش على السلطة". نفس المؤرخين البرجوازيين يؤكدون لنا أن الثورة البلشفية سنة 1917 "لم تكن سوى انقلاب". إنهم غير قادرين على النظر إلى التاريخ في وجهه، وهم بدلا من ذلك مفتونون بالنظر إليه من الخلف.

إن تحليلهم "العميق" سطحي بالمعنى الحرفي للكلمة. بالنسبة للفلاسفة البرجوازيين عموما كل شيء موجود في مظاهره الخارجية فقط. إنها أشبه بمحاولة فهم حركة الأمواج دون تكبد عناء دراسة التيارات المحيطية العميقة. وحتى بعد أن استولت الجماهير على شوارع القاهرة، بقيت هيلاري كلينتون مصرة على أن مصر مستقرة. استندت في تحليلها على أن الدولة وأجهزتها القمعية ما تزال سليمة، لكنها في غضون أسبوعين صارت هباء.

لا يشكل وجود أجهزة قوية للقمع ضمانة ضد الثورة، وربما يكون عكس ذلك تماما. في ظل الديمقراطية البرجوازية تمتلك الطبقة الحاكمة بعض صمامات الأمان التي يمكن أن تحذرها عندما يبدأ الوضع في الخروج عن نطاق السيطرة. لكن في ظل نظام ديكتاتوري أو استبدادي ليست هناك فرصة للشعب للتعبير عن مشاعره داخل إطار النظام السياسي. لذلك يمكن أن تحدث الانفجارات فجأة، دون سابق إنذار، وتتخذ على الفور شكلا جذريا.

تشكل القوات المسلحة القاعدة الرئيسية للنظام القديم. لكنه مثل أي جيش آخر يعكس ما يحدث في المجتمع، ويقع تحت تأثير الجماهير. إنه من الناحية النظرية قوة هائلة. لكن الجيوش تتكون من البشر، وهي تخضع لنفس الضغوط التي تخضع لها أي شريحة اجتماعية وأي مؤسسة أخرى. وفي لحظة الحقيقة، لم يكن في مستطاع لا مبارك ولا بن علي استخدام الجيش ضد الشعب.

لا تشبه جيوش العديد من الدول العربية جيوش دول العالم الرأسمالي المتقدم. إنها، في التحليل الأخير، جيوش للرأسمالية، هيئات مسلحة من الرجال للدفاع عن الملكية الخاصة، لكنها في نفس الوقت نتيجة للنضال ضد الاستعمار. بالطبع تمثل قيادات الجيش مصالح الطبقات السائدة. لكن وكما رأينا في مصر فإن المجندين العاديين والضباط من المراتب الدنيا أقرب إلى الشعب العامل، وفي ظل نهوض ثوري يمكنهم أن ينتقلوا إلى صفوف الثورة. لقد سبق لنا أن رأينا هذا مع انقلاب عبد الناصر في 1952.

تسببت الثورة في حدوث أزمة داخل جهاز الدولة. تزايدت التوترات بين الجيش والشرطة وبين الشرطة والمحتجين. وهذا هو السبب في أن مجلس الجيش قرر في النهاية التخلص من مبارك. كان الجيش يهتز بوضوح بفعل الأحداث وظهرت علامات التصدع داخله تحت ضغط الجماهير. كانت هناك حالات لوضع الضباط لأسلحتهم والانضمام إلى المتظاهرين في ميدان التحرير. في ظل هذه الظروف لم تعد هناك أي إمكانية لاستخدام الجيش ضد الشعب الثوري.

دور البروليتاريا

خلال الأسبوعين الأولين كانت السلطة في الشوارع. لكن قادة الحركة الذين أخذوا السلطة في الشوارع، لم يعرفوا ماذا يفعلون بها. كانت الفكرة القائلة بأن كل ما نحتاجه هو جمع عدد كبير من الناس في ميدان التحرير خطأ جسيما. فهي أولا، تترك مسألة سلطة الدولة خارج الحسابات، لكنها المسألة المركزية التي تقرر جميع المسائل الأخرى. ثانيا، كانت إستراتيجية سلبية، في حين أن المطلوب كان هو إستراتيجية إيجابية وهجومية.

في تونس، أجبرت المظاهرات الجماهيرية الحاشدة بن علي على الفرار إلى المنفى وأطاحت بالحزب الحاكم. وقد أقنع هذا الكثير من المصريين بأن نظامهم قد يكون بمثل تلك الهشاشة. لكن المشكلة هي أن مبارك رفض الرحيل. وبالرغم من كل الجهود والشجاعة الخارقة من جانب المحتجين فإن المظاهرات عجزت عن الإطاحة بمبارك. إن المظاهرات الجماهيرية مهمة لأنها وسيلة لإيقاظ الجماهير التي كانت خاملة سابقا، ومنحها شعورا بقوتها. لكن لم يكن في إمكان الحركة أن تنجح ما لم ترق إلى مستوى جديد وأعلى. وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من طرف الطبقة العاملة.

انعكست صحوة البروليتاريا في موجة من الإضرابات والاحتجاجات خلال السنوات الأخيرة. وقد كانت هذه أحد العوامل الرئيسية التي أعدت للثورة. وهي أيضا مفتاح نجاحها في المستقبل. شكل الدخول الرائع للبروليتاريا المصرية إلى مسرح التاريخ نقطة تحول في مصير الثورة. كان هذا هو ما أنقذ الثورة وأدى إلى الإطاحة بمبارك. ففي كل المدن الواحدة منها بعد الأخرى نظم عمال مصر إضرابات وعمليات احتلال للمصانع. وطردوا المديرين المكروهين والقادة النقابيين الفاسدين.

انتقلت الثورة إلى مستوى أعلى. وتحولت من مظاهرة إلى انتفاضة وطنية. ما هو الاستنتاج الذي يمكن استخلاصه من هذا؟ يمكننا أن نستخلص فقط ما يلي: أن النضال من أجل الديمقراطية سينتصر فقط إذا ما قادته البروليتاريا أي: ملايين العمال الذين ينتجون ثروات المجتمع، والذين دون إذنهم لا يمكن لأي مصباح أن يضيء، ولا لهاتف أن يرن ولا لعجلة أن تدور.

صحوة الأمة المصرية

ليست للماركسية أي علاقة مع الحتمية الاقتصادية. إن معدلات البطالة العالية والفقر قضايا متفجرة. لكن كان هناك شيء آخر في المعادلة الثورية: شيء أكثر مراوغة، ولا يمكن قياسه كميا، لكنه ليس سببا للاستياء أقل قوة من الحرمان المادي. إنه الشعور العميق بالإهانة في قلوب وعقول شعب عريق ونبيل استعبد واضطهد من قبل الامبريالية على مدى أجيال.

يسود نفس الشعور العام بالإذلال بين جميع شعوب العالم العربي، المستعبدين والمظلومين من قبل الامبريالية طيلة أكثر من مائة سنة، والخاضعين للإملاءات، أولا من قبل القوى الأوروبية، ثم من قبل العملاق الموجود على الجانب الآخر من الأطلسي. يمكن لهذا الشعور أن يعبر عن نفسه بشكل مشوه عبر الأصولية الإسلامية التي ترفض كل شيء غربي باعتباره شرا. لكن صعود الإسلاميين في السنوات الأخيرة لم يكن سوى تعبير عن فشل اليسار في تقديم بديل اشتراكي حقيقي للمشاكل الملحة لجماهير العالم العربي.

خلال سنوات الخمسينات والستينات أثار حلم جمال عبد الناصر بالاشتراكية العربية والوحدة العربية آمال الجماهير في كل مكان من العالم العربي. صارت مصر منارة للأمل بالنسبة لجماهير العالم العربي المظلومة والمضطهدة. لكن عبد الناصر لم يحمل برنامجه إلى نهايته المنطقية وفي ظل أنور السادات انقلب مساره. أصبحت مصر أداة طيعة لخدمة سياسة الولايات المتحدة. وخلال العقود الثلاثة من حكم مبارك تضاعف هذا الاتجاه آلاف المرات. كان مبارك أداة في يد الولايات المتحدة وإسرائيل وخان القضية الفلسطينية دون خجل.

خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية انطبع مزاج جماهير العالم العربي بخيبة الأمل والهزائم والإذلال. لكن الآن تحولت عجلة التاريخ بـ 180 درجة وكل شيء يتغير. إن فكرة الثورة لها معنى ملموسا جدا في العالم العربي اليوم. إنها تستولي على عقول الملايين وصارت قوة مادية. والأفكار التي كانت ترتبط بضعة أشخاص فقط صارت تقنع الآن وتعبئ الملايين.

إن الثورات مدرسة عظيمة. إنها تضع جميع التيارات على محك الاختبار. فبين ليلة وضحاها كنس سيل الثورة أفكار الإرهاب الفردي والأصولية الإسلامية جانبا. لقد أيقظت الثورة الأفكار الشبه المنسية. إنها تعد بالعودة إلى التقاليد القديمة للاشتراكية والقومية العربية، التي لم تختف أبدا بشكل كامل من الوعي الشعبي. وليس من قبيل الصدفة أن يجري إحياء أغاني المقاومة القديمة. وقد ظهرت صور عبد الناصر في المظاهرات.

إننا نشهد نهضة عربية جديدة. ويجري صقل وعي جديد في خضم النضال. إن المطالب الديمقراطية أساسية بالنسبة للشعب في ظل مثل هذه الظروف. والشعب الذي كان مستعبدا لفترة طويلة يقوم أخيرا ويلقي جانبا العقلية القديمة السلبية والقدرية، ويرفع هامته عاليا.

يمكن للمرء أن يرى نفس السيرورة في كل إضراب، لأن الإضراب يشبه ثورة مصغرة، بينما تمثل الثورة إضرابا للمجتمع كله ضد مضطهديه. وبمجرد ما يصيرون نشطاء يعيد الرجال والنساء اكتشاف كرامتهم الإنسانية. إنهم يبدأون في أخذ مصيرهم بأيديهم، ويطالبون بحقوقهم: نحن نطالب بأن نعامل باحترام. هذا هو جوهر كل ثورة حقيقية.

ترفع الثورة الوعي إلى مستوى أعلى. إنها تسحب البساط من تحت أقدام الرجعيين الذين خدعوا الجماهير وأربكوا وعيها بسموم الأصولية الدينية. وبالرغم من الدعاية الكاذبة للامبريالية، فإن الإسلاميين لم يلعبوا سوى دور هزيل أو معدوم في الثورة في تونس ومصر. إن الثورة تحتقر الطائفية. إنها تقطع مع جميع الاختلافات وتوحد الرجال والنساء، الصغار والكبار، المسلمين والمسيحيين.

تقطع الحركة الثورية مع الاختلاف بين الأديان، والاختلاف بين الجنسين. إنها تدفع بالمرأة العربية للخروج إلى الشوارع للنضال إلى جانب رجالهن. إنها تقطع مع كل الانقسامات القومية والعرقية واللغوية. إنها تدافع عن الأقليات المضطهدة. إنها تجمع بين كل القوى الحية للأمة العربية وتوحدهم في الكفاح المشترك. إنها تمكن الشعب الثوري من النهوض على رجليه، واستعادة كرامته ويسعد بحريته. ويمكن للرجال والنساء أن يرفعوا هاماتهم عاليا ويقولون بفخر: "لن نبق عبيدا".

حدود العفوية

جاءت الثورة في تونس ومصر من تحت. لم تكن منظمة من قبل أي من الأحزاب السياسية القائمة أو القادة. أغلبهم بقي متخلفا بعيدا وراء حركة لم يتوقعوها، ولم يستعدوا لها مطلقا. لو أن هناك درس واحدا يمكن استخلاصه من تجربة الثورة المصرية، فإنه سيكون: لا يمكن للشعب الثوري أن يثق إلا في نفسه: لا تثقوا إلا في قوتكم، وفي تضامنكم، وشجاعتكم، وتنظيمكم.

عندما ننظر إلى مصر فإن المقارنة التاريخية التي تتبادر فورا إلى الذهن هي برشلونة سنة 1936. حيث هاجم العمال بدون أي حزب، ولا قيادة، ولا برنامج ولا خطة، الثكنات بشجاعة عظيمة وسحقوا الفاشيين. لقد أنقذوا الوضع وكان في إمكانهم حسم السلطة. لكن السؤال هو على وجه التحديد: لماذا لم يحسموا السلطة؟ الجواب هو غياب القيادة. أو بعبارة أصح لقد تخلى عنهم زعماء الكنفدرالية الوطنية للشغل الفوضويون الذين وضع العمال فيهم ثقتهم. من الضروري على كل من لديه أوهام بخصوص الفوضوية أن يدرس تاريخ الثورة الإسبانية!

للوهلة الأولى تبدو التحركات التي شهدتها تونس ومصر وكأنها ثورة عفوية بدون أي منظمة أو قيادة. لكن هذا غير صحيح. فالحركة لم تكن عفوية إلا جزئيا فقط. لقد تمت الدعوة لها من طرف بعض الجماعات والأفراد. وكان لها قادة اتخذوا المبادرات، ووضعوا الشعارات ودعوا إلى المظاهرات والإضرابات.

وضع الكثير من التركيز على دور الشبكات الاجتماعية مثل الفيس بوك وتويتر في تونس ومصر (وقبل ذلك في إيران). ليس هناك من شك في أن التكنولوجيا الجديدة قد لعبت دورا مفيدا للغاية للثوريين وجعلت من المستحيل على دول مثل مصر الإبقاء على احتكار المعلومات التي تمتعت بها في الماضي. لكن أولئك الذين يبالغون في تقدير الجانب التكنولوجي البحت للمسألة إنما يشوهون الجوهر الحقيقي للثورة، أي دور الجماهير والطبقة العاملة بشكل خاص. ذلك لأنهم يرغبون في تصوير الثورة بوصفها قضية للطبقة الوسطى أساسا، بقيادة حصرية من قبل المثقفين وهواة الانترنت. إن هذا خاطئ تماما.

في المقام الأول، فقط نسبة صغيرة من السكان هي التي تمتلك القدرة على الوصول إلى الإنترنت. وثانيا، قام النظام عمليا بقطع الإنترنت وتعطيل خدمات الهاتف المحمول. لكن هذا لم يمنع الحركة ولو لدقيقة واحدة. وحتى بدون الإنترنت والهواتف النقالة قام الشعب بتنظيم مظاهرات عبر استخدام تقنية قديمة جدا، وهي الخطب. نفس التقنية استخدمت لإشعال الثورة الفرنسية والثورة الروسية، التي لم تكن لسوء الحظ تستطيع الاستفادة من الفايسبوك أو التويتر، لكنها قامت بعمل جيد على أي حال. وقد لعبت قناة الجزيرة دورا أكبر من الفايسبوك، ومكنت ملايين الناس من مشاهدة الأحداث وهي تقع يوما بعد يوم، ساعة بساعة.

كما سبق لنا أن رأينا ليس من الصحيح القول بأن الثورة المصرية كانت بدون قادة. لقد كان لها نوع من القيادة منذ البداية. وكانت تتألف من تحالف فضفاض بين أكثر من عشرة أحزاب صغيرة ومجموعات مناضلة. كانوا هم الذين أصدروا نداء على الفايسبوك إلى تنظيم "يوم الغضب" ليتزامن مع عيد الشرطة يوم 25 يناير. قام حوالي 80.000 مصري من متصفحي الانترنت بتوقيعه، متعهدين بالتظاهر في الشوارع للتعبير عن مطالب الإصلاح.

في كل من تونس ومصر نظمت المظاهرات في البداية من طرف مجموعات من الناس معظمهم من الشباب وفروا القيادة التي عجزت أحزاب المعارضة "الرسمية" عن توفيرها. تشير الايكونوميست إلى «ظهور مجموعات فضفاضة تضغط في سبيل الإصلاح، موجهة عن طريق شبكة الإنترنت من جانب شبان ذوي مواقف علمانية عموما، لكن بدون إيديولوجية محددة. بعضهم يدافع عن حقوق العمال، بينما يدافع البعض الآخر عن تعزيز حقوق الإنسان أو عن الحرية الأكاديمية».

لقد نفذت هذه الإجراءات من قبل أقلية حاسمة وبالتالي فإنها لم تكن عفوية بحتة. لكن هذا كان مجرد الجزء الظاهر من جبل جليد ضخم جدا. فقد كان تعاطف الجماهير إلى جانب المحتجين. تحول الاحتجاج الوطني إلى انتفاضة عامة ضد نظام مبارك، مع احتجاجات متزامنة واسعة في جميع أنحاء مصر. وبالتالي فإنه في الواقع، كانت هناك نوع من القيادة، رغم أنها لم تكن تمتلك أفكار جد واضحة. ومع ذلك، ففي كل من تونس ومصر أخذت استجابة الجماهير المنظمين على حين غرة. لا احد من المنظمين كان يتوقع الأعداد الهائلة التي استجابت للدعوة، كما لم يكونوا يتوقعون أن تسمح لهم قوات القمع بالذهاب بعيدا.

لقد وفرت الطبيعة "العفوية" للاحتجاجات حماية معينة ضد الدولة، وبهذا المعنى فإنها كانت إيجابية. لكن عدم وجود قيادة مناسبة يشكل أيضا نقطة ضعف خطيرة لها آثار سلبية جدا لاحقا.

إن نجاح الجماهير في كلتا الحالتين في الإطاحة ببن علي ومبارك، بدون مساعدة من قيادة واعية، شهادة بليغة على الإمكانات الثورية الهائلة التي تختزنها الطبقة العاملة في جميع البلدان. لكن هذا القول لا يحل كل جوانب المسألة قيد النظر. لقد اتضح ضعف الحركة العفوية المحضة في إيران، حيث وبالرغم من البطولة العظيمة التي أبانت عنها الجماهير، فإن الثورة انتهت بالهزيمة - على الأقل في الوقت الحاضر.

إن الحجة القائلة بأنه "لسنا بحاجة إلى القادة" لا تحتمل أدنى محاولة تمحيص. فحتى في إضراب لنصف ساعة في مصنع تكون هناك دائما قيادة. فالعمال سينتخبون أشخاصا من بينهم لتمثيلهم وتنظيم الإضراب. وأولئك الذين يتم انتخابهم ليسو عناصر عرضية، بل يكونون غالبا من العمال الأكثر شجاعة وخبرة وذكاء. ويتم اختيارهم على هذا الأساس.

القيادة مهمة، والحزب مهم. ويمكن لطفل صغير أن يفهم هذا الموقف، الذي يشكل ألف باء الماركسية. لكن بعد الألف باء هناك أحرف أخرى. هناك بعض ممن يسمون أنفسهم ماركسيين يتصورون أنه ما لم يوجد هناك حزب ماركسي لقيادة البروليتاريا، وحتى يوجد مثل هذا الحزب، فإنه لن تكون هناك أي ثورة. ليس لهذا التحذلق السخيف أي علاقة مع الماركسية. إن الثورة لا تندلع بشكل منظم وبحزب ثوري يقود الجماهير بهراوة.

سنة 1917 قال لينين إن الطبقة العاملة هي دائما أكثر ثورية بكثير حتى من أكثر الأحزاب ثورية. وقد أثبتت تجربة الثورة الروسية انه كان على صواب. دعونا نذكر أنفسنا بأنه في أبريل 1917 كان على لينين أن يوجه نداء مباشرا إلى العمال متجاوزا اللجنة المركزية البلشفية، التي تبنت موقفا محافظا حيال مسألة الثورة البروليتارية في روسيا.

ويمكن ملاحظة نفس العقلية المحافظة، ونفس عدم الثقة الأرستقراطية في الجماهير، في كثير من أولئك الذين يعتبرون أنفسهم "طليعة" الطبقة، لكن الذين يلعبون عمليا دور مكسري الحركة في اللحظة الحاسمة. ويكفي لنا أن نشير إلى الدور المؤسف الذي قامت به "الطليعة" القديمة في إيران، الذين نجوا من ثورة 1979، لكن الذين وقفوا بمعزل عن الجماهير الثورية التي خرجت إلى الشوارع بالملايين لتحدي النظام سنة 2009.

هل يقول الماركسيون إنه ما لم يتم بناء الحزب الثوري وحتى يتم بناءه، ويكون في قيادة الطبقة العاملة، فإن الثورة مستحيلة؟ كلا، إننا لم نقل أبدا مثل هذا الشيء. فالثورة تسير وفقا لقوانينها الخاصة، والتي تتطور بشكل مستقل عن إرادة الثوار. تحدث الثورة عندما تتوفر كل الشروط الموضوعية. لا يمكن للجماهير أن تنتظر حتى يتم بناء الحزب الثوري. لكن وبمجرد ما تتوفر كل الظروف الموضوعية، تصير القيادة مسألة حاسمة جدا. ويحدد وجودها في الكثير من الحالات الفرق بين النصر والهزيمة.

الثورة هي صراع للقوى الحية. والنصر ليس محددا سلفا. في الواقع كانت الثورة المصرية عند نقطة معينة قريبة جدا من الهزيمة. من الناحية التكتيكية لم يكن البقاء في ميدان التحرير هو الخيار الأفضل. وكان ذلك يظهر محدودية النظرة عند المنظمين. كاد مبارك أن يهزم الحركة، حيث قام بشراء بعض الفئات، وعبئ بلطجية البروليتاريا الرثة للقيام بهجمات شرسة. كان يمكنه أن ينجح. وحده التدخل الحاسم للجماهير، وخصوصا تدخل الطبقة العاملة، هو من حال دون الهزيمة.

مشكلة القيادة

لا تكون لدا الجماهير أبدا خطة جاهزة في بداية الثورة. إنها تتعلم من خلال النضال. قد لا تعرف بالضبط ماذا تريد، لكنها تعرف جيدا ما لا تريد. وهذا كاف لدفع الحركة إلى الأمام.

إن القيادة عنصر هام جدا في الحرب. هذا لا يعني أنها العنصر الوحيد. فحتى أبرع القادة لا يمكنهم أن يضمنوا النصر إذا كانت الشروط الموضوعية غير مواتية. وأحيانا يكون من الممكن كسب معركة بجنرالات سيئين. في الثورة، التي هي أسمى تعبير عن الحرب بين الطبقات، تمتلك الطبقة العاملة مزايا الكم العددي وسيطرتها على المفاتيح الرئيسية للأجهزة الإنتاجية في المجتمع. لكن الطبقة الحاكمة تمتلك العديد من المزايا الأخرى.

إن الدولة جهاز للحفاظ على ديكتاتورية أقلية من المستغِلين على الأغلبية المستغَلة. كما تمتلك الطبقة الحاكمة بين يديها العديد من الأدوات القوية الأخرى: الصحافة والإذاعة والتلفزيون، والمدارس والجامعات، وبيروقراطية الدولة، وكذلك البيروقراطية الروحية بل وحتى البوليس في المساجد والكنائس. وهي بالإضافة إلى ذلك تمتلك جيشا من المستشارين المحترفين والسياسيين والاقتصاديين وغيرهم من المتخصصين في فنون التلاعب والخداع.

من أجل مكافحة جهاز القمع هذا، الذي تم بناؤها وتحسينه على مدى عقود كثيرة، يتوجب على الطبقة العاملة أن تطور منظماتها الخاصة، بتوجيه من قيادة تمتلك الخبرة والتصميم، واستوعبت دروس التاريخ ومستعدة لكافة الاحتمالات. إن القول بأنه من الممكن هزيمة الطبقة الحاكمة ودولتها من دون تنظيم وقيادة، يشبه دعوة جيش لخوض معركة بدون تدريب وبدون استعداد، في مواجهة جيش محترف بقيادة ضباط من ذوي الخبرة.

في معظم الحالات، سينتهي مثل هذا الصراع إلى الهزيمة. لكن حتى ولو نجحت الثورة في التغلب على العدو في الجولة الأولى، فإنه لن يكون كافيا لضمان النصر في نهاية المطاف. فالعدو سوف يعيد تجميع صفوفه، وإعادة تنظيم نفسه وتعديل تكتيكاته، وسيستعد للقيام بهجوم مضاد، وهو ما ستكون له نتائج أكثر خطورة لأن الجماهير تكون قد أقنعت بأن الانتصار في الحرب قد تم تحقيقه بالفعل. وبالتالي فإن ما كان يبدو في البداية وكأنه لحظة انتصار وفرح يتبين أنه لحظة خطر شديد على مصير الثورة، وانعدام قيادة ملائمة في مثل هذه الحالات سوف يكون كعب أخيل، سيكون نقطة ضعف قاتلة.

تضم قيادة الحركة الاحتجاجية عناصر متنوعة وتيارات إيديولوجية مختلفة. وهذا يعكس، في آخر التحليل، وجود مصالح طبقية مختلفة. في البداية يختفي هذا الواقع من خلال النداء العام إلى "الوحدة". إلا أن تطور الثورة سيؤدي حتما إلى عملية فرز داخلي. فالعناصر البرجوازية والطبقة الوسطى "الديمقراطية" ستقبل بالفتات الذي يقدمه النظام. سوف يساومون ويدخلون في صفقات من وراء ظهور الجماهير. وفي مرحلة معينة سينتقلون من معسكر الثورة إلى معسكر الرجعية. وهذا ما صار يحدث بالفعل.

إن العناصر الثورية الأكثر تصميما هي التي يمكنها، في نهاية المطاف، أن تضمن النصر النهائي للثورة: أي أولئك الذين ليسوا على استعداد للمساومات، والمستعدون للذهاب حتى النهاية. إن الوضع يحبل بعوامل انفجار جديد. وفي النهاية يجب أن ينتصر هذا المعسكر أو ذاك. إن الظرف الموضوعي ناضج لحسم السلطة من قبل الطبقة العاملة. وحده غياب العامل الذاتي - الحزب والقيادة الثوريين- هو ما يمنع هذا من التحقق حتى الآن. وبالتالي فإن حل مشكلة القيادة هو المسألة المركزية للثورة.

المؤامرات في القمة

الانتفاضة الوطنية هي التي أقنعت الجنرالات بأن رحيل مبارك هو الذي سيعيد الهدوء إلى شوارع مصر ويمكن من استعادة "النظام". وقد كان هذا، وما يزال، هوسهم الأساسي. أما كل الحديث عن الديمقراطية فهو مجرد محاولة لإخفاء هذه الحقيقة. إن الجنرالات كانوا جزءا من النظام القديم، وشاركوا في جميع الأعمال القذرة من فساد وقمع. إنهم يخافون من الثورة مثل الخوف من الطاعون ويريدون فقط العودة إلى "الوضع الطبيعي" – أي: العودة إلى نفس النظام القديم تحت اسم مختلف.

لدا الطبقة الحاكمة العديد من الاستراتيجيات لهزيمة الثورة. فإذا لم تتمكن من القيام بذلك عن طريق القوة، فإنها ستلجأ إلى المكر. وعندما تواجه الطبقة الحاكمة احتمال فقدان كل شيء تلجأ دائما إلى تقديم التنازلات. لقد كان إسقاط بن علي ومبارك انتصاران عظيمان، لكنه كان فقط الفصل الأول من الملحمة الثورية.

ما يزال ممثلو النظام القديم في مواقع السلطة؛ وما يزال جهاز الدولة القديم، والجيش والشرطة والبيروقراطية، كل في مكانه. يتآمر الامبرياليون مع قيادات الجيش والقادة القدماء لخداع الجماهير وحرمانها من كل ما حققته. إنهم يقدمون حلا وسطا، لكنه حل وسط للحفاظ على سلطتهم وامتيازاتهم.

إن النظام القديم، وبعد أن هزم في الشوارع، يسعى جاهدا للتوصل إلى صفقة، أي أنه يحاول خداع قادة المعارضة، بحيث يقومون بدورهم بخداع الجماهير. وكانت الفكرة هي أنه بمجرد ما تصبح المبادرة في يد "المفاوضين"، فإن الجماهير ستصبح مجرد متفرجة سلبية. وستتخذ القرارات الحقيقية في مكان آخر، وراء الأبواب المغلقة، وراء ظهور الشعب.

لقد بدأ رجال النظام القديم يستعيدون تدريجيا أعصابهم. بدأوا يشعرون بثقة أكبر ويضاعفون المناورات والدسائس، مستندين على الفئات الأكثر اعتدالا بين المعارضة. بينما تشعر الجماهير بعدم الارتياح. إنهم لا يريدون أن تسرق الحركة من طرف الساسة المحترفين والوصوليين الذين يساومون مع الجنرالات مثلما يساوم التجار في السوق. لكن السؤال يبقى هو: كيف يمكن السير قدما بالثورة؟ ما الذي يجب القيام به؟

مع تزايد تجذر حركة، فإن بعض العناصر التي لعبت دورا قياديا في المراحل المبكرة ستسقط جانبا. وبعضهم سيتخلى عنها، والبعض الآخر سيذهب إلى جانب العدو. وهذا ينسجم مع المصالح الطبقية المختلفة. فالفقراء والعاطلون عن العمل، والعمال، و"العديمو الملكية" ليست لهم أي مصلحة في الحفاظ على النظام القديم. إنهم يريدون ليس كنس مبارك فحسب، بل كنس كل نظام الاستغلال والقهر واللامساواة. لكن البرجوازيين الليبراليين يرون في النضال من اجل الديمقراطية طريقا إلى مناصب مريحة في البرلمان. ليست لديهم أي مصلحة في إنجاز مهام الثورة حتى النهاية أو تعكير صفو علاقات الملكية القائمة.

بالنسبة للبرجوازية الليبرالية ليست الحركة الجماهيرية سوى ورقة مساومة مربحة، ليست سوى وسيلة يمكنهم من خلالها تهديد الحكومة لإعطائهم المزيد من الفتات. سوف يخونون الثورة دائما. لا يمكن إيلاء هؤلاء الناس أي ذرة من الثقة. يقول البرادعي الآن إنه يعارض التعديلات الدستورية، لكن وبدلا من أن يطالب بجمعية تأسيسية على الفور، يقول إنه يجب تأجيل الانتخابات، وأن الظروف غير متوفرة، وأن الوقت ليس مناسبا، وهلم جرا. بالنسبة لهؤلاء السادة لن يحين أبدا الوقت للديمقراطية. أما بالنسبة للجماهير الذين سالت دماؤهم من أجل الثورة، فإن الوقت من أجل الديمقراطية هو الآن!

إن التيار الماركسي الأممي يقول:

  • لا ثقة في الجنرالات!

  • لا ثقة في من نصبوا أنفسهم "قادة" للحركة والذين يدعون إلى عودة الأوضاع إلى "طبيعتها"!

  • فلنحافظ على استمرارية الحركة الجماهيرية!

  • فلننظم ونقوي اللجان الثورية!

  • من أجل إسقاط كل أنصار النظام القديم!

  • لا مساومات مع النظام القديم!

  • ليس للنظام "المؤقت" الحالي أي شرعية ويجب إسقاطه فورا. فلنطالب بعقد الجمعية التأسيسية فورا!

الإخوان المسلمون

يقول البعض، بمن فيهم خامنئي في إيران، إن الحركة التي نشهدها حركة دينية، وأنها "صحوة إسلامية". لكن هذا غير صحيح. وحتى رجال الدين الرئيسيون في مصر يعترفون بذلك. إنهم يخشون من أن يرموا جانبا إذا ما حاولوا تصوير الثورة كحركة دينية. إنها حركة لجميع الأديان، وبالتالي فلا دين لها. لم يكن هناك أي عداء ضد المسيحيين في المظاهرات. بل لم يكن هناك حتى أي تلميح لمعاداة السامية.

إن الطائفية الدينية سلاح يستخدمه الرجعيون لخداع الشعب. لقد كانت هجمات دجنبر ضد المسيحيين الأقباط بتخطيط من الشرطة السرية من أجل خلق الانقسام الطائفي وتحويل الانتباه عن المشاكل الحقيقية للجماهير. وها هم يلجئون الآن إلى نفس التكتيك القذر من أجل تقسيم الجماهير على أسس طائفية، بالتحريض على النزاع بين المسلمين والأقباط في محاولة لبث الفرقة بين صفوف الشعب وتضليله وتقويض الثورة.

إن الثورات في تونس ومصر علمانية وديمقراطية إلى حد كبير، وغالبا ما عمدت إلى استبعاد الإسلاميين. إن الفكرة القائلة بأن جماعة الإخوان المسلمين هي "المعارضة الحقيقية الوحيدة" فكرة زائفة حتى النخاع. إن المطالب الأساسية للمتظاهرين المصريين تتعلق بالشغل والغذاء والحقوق الديمقراطية. وهذه المطالب لا علاقة لها مع الإسلاميين، إنها جسر نحو الاشتراكية، التي تمتلك جذورا عميقة في تقاليد مصر وبلدان عربية أخرى.

وصف بعض اليساريين المضلَّلين الحركات في تونس ومصر باعتبارها ثورات "الطبقة الوسطى". وكان نفس هؤلاء الذين يسمون أنفسهم يساريين يغازلون الجماعات الرجعية مثل حزب الله وحماس والإخوان المسلمين لفترة طويلة. يحاولون تبرير هذه الخيانة للماركسية على أساس ما يزعمون أنه موقف مناهض للامبريالية لدا قادة تلك الحركات. هذا الادعاء خاطئ من البداية إلى النهاية. إن من يسمون أنفسهم إسلاميين معادون للامبريالية بالكلام فقط، لكنهم في الممارسة يمثلون تيارا رجعيا. إنهم، في الواقع، العجلة الخامسة في عربة النظام القديم.

وقد حاولت الامبريالية استخدام الإسلاميين كفزاعة لخداع الجماهير وإخفاء الطبيعة الحقيقية للثورة العربية. يقولون: "انظروا! إذا ذهب مبارك فإن القاعدة ستحل محله". مبارك نفسه قال للشعب المصري إنه إذا ذهب فإن مصر ستصبح "مثل العراق". كانت هذه كلها أكاذيب. إن دور الأصوليين والمنظمات مثل جماعة الإخوان المسلمين مبالغ فيه بشكل غريب. إن هذه المنظمات لا تمثل قوة للتقدم. إنهم يظهرون أنفسهم كمعادين للإمبريالية لكنهم يمثلون مصالح كبار ملاكي الأرض والرأسماليين. وفي آخر المطاف سوف يخونون دائما قضية العمال والفلاحين.

إن قيام بعض المجموعات اليسارية الأوروبية، وحتى بعض الذين يسمون أنفسهم ماركسيين، بدعم الإسلاميين فضيحة صريحة. ليس هذا أقل من خيانة للثورة البروليتارية. صحيح أن جماعة الإخوان المسلمين منقسمة على أساس طبقي. القيادة في يد من عناصر محافظة، ورأسماليين ورجال أعمال أثرياء، بينما تضم في قاعدتها قطاعات من بين أكثر الشباب كفاحية والذين ينحدرون من الطبقة العاملة والفقيرة. لكن طريق كسب هؤلاء الأخيرين إلى جانب الثورة لا يمر عبر عقد تحالفات مع قادتهم الرأسماليين، بل بالعكس إخضاعهم لنقد حازم، من أجل فضح ادعاءاتهم الجوفاء بمعاداة الامبريالية والمناصرة للفقراء.

وهذا بالضبط عكس ما قامت به هذه المجموعات عندما عقدت تحالفا مع قادة الإخوان المسلمين بتنظيم مؤتمر القاهرة لمناهضة الحرب. في الواقع، كانت هذه المنظمات اليسارية تقدم لقادة جماعة الإخوان المسلمين غطاء يساريا، مؤكدة على مزاعمهم الكاذبة بمناهضة الإمبريالية وبالتالي تعزيز قبضتهم على أعضائهم.

في الماضي كان الإخوان المسلمون مدعومين من طرف وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لتقويض سلطة جمال عبد الناصر. كانت الحركات الأصولية الإسلامية من صنع جون فوستر دالاس ووزارة الخارجية الأمريكية، لضرب اليسار بعد حرب السويس عام 1956. لكن عندما أصبح السادات ومبارك عملاء لأمريكا لم تعد هناك حاجة لخدماتهم. قالت هيلاري كلينتون وآخرون إن جماعة الإخوان المسلمين لا تشكل تهديدا، وأنهم أناس يمكن العمل معهم. وهذه إشارة واضحة إلى أن الإمبرياليين سيحاولون مرة أخرى استخدام الإسلاميين لتفادي الثورة.

وبالمثل، فإن حماس وحزب الله شكلا في الأصل لضرب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرها من التيارات اليسارية الأخرى في فلسطين. وفي وقت لاحق، صنعت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أسامة بن لادن كثقل موازن للقوات السوفياتية في أفغانستان. وهم الآن يتآمرون مرة أخرى مع قادة الإخوان المسلمين لكبح الثورة في مصر، وخداع الشعب. لكن جماعة الإخوان المسلمين ليست حركة متجانسة وهي الآن تنقسم إلى كتل مختلفة على أساس طبقي.

إن الفقراء الذين يؤيدون الإخوان المسلمين شيء، وقادة جماعة الإخوان شيء أخر مختلف تماما. في سنوات الثمانينات كان قادة الإخوان من اكبر المستفيدين من تحرير الاقتصاد -برنامج الانفتاح- والذي بموجبه قام السادات ثم مبارك بتفكيك القطاع العمومي لصالح الرأسمال الخاص. وتفيد دراسة لرجال أعمال الإخوان المسلمين أنهم سيطروا في تلك المرحلة علي 40 % من جميع المشاريع الاقتصادية الخاصة. إنهم جزء من النظام الرأسمالي ولهم كل المصلحة في الدفاع عنه. إن سلوكهم لا يحدده القرآن بل تحدده مصلحتهم الطبقية.

إن الإسلاميين "المتشددين" خائفون من الجماهير الثورية مثل خوف النظام نفسه. أعلنت جماعة الإخوان المسلمين أنها لن تتفاوض مع الحكومة حتى يتنحى مبارك. لكنهم غيروا رأيهم بمجرد ما لوح النظام بأصبعه الصغير. وقد ذهب أحد قادتهم إلى ميدان التحرير، حيث كان المتظاهرون يقفون بحزم لمنع الدبابات بأجسادهم من احتلال الساحة، مناشدا إياهم عدم الدخول في صدام مع الجيش.

إن موقفنا من مثل هؤلاء الناس قد أوضحه لينين منذ زمن طويل عندما حذر في المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية:

«11) وفيما يتعلق بالدول والأمم الأكثر تخلفا، حيث تسود العلاقات الإقطاعية أو البطريركية والعلاقات البطريركية الفلاحية، يعتبر من الأهمية بمكان أن نضع في الاعتبار ما يلي:

أولا، أنه يجب على جميع الأحزاب الشيوعية مساندة حركة التحرير الديمقراطية البرجوازية في هذه البلدان، وأن واجب تقديم المساعدة الأكثر نشاطا تقع في المقام الأول على عاتق عمال البلاد التي تعتمد عليها الأمة المتخلفة استعماريا أو ماليا؛

ثانيا، ضرورة النضال ضد رجال الدين وغيرهم من العناصر المؤثرة الرجعية والقروسطوية في البلدان المتخلفة ؛

ثالثا، ضرورة مكافحة التيارات الإسلامية والاتجاهات المماثلة، التي تسعى إلى الدمج بين حركة التحرر الوطني ضد الامبريالية الأوروبية والأميركية وبين محاولة تقوية مواقف الزعماء القبليين، وكبار ملاكي الأراضي، ورجال الدين، وما إلى ذلك» (لينين، مشروع موضوعات حول المسائل الوطنية والاستعمارية، 5 يونيو 1920، خط التشديد من عندنا).

هذا هو الموقف الحقيقي للماركسية بخصوص التيارات الدينية الرجعية. وهو الموقف الذي يدافع عنه التيار الماركسي الأممي بحزم.

إن التيار الماركسي الأممي يقول:

  • الدفاع عن وحدة الشعب الثوري!

  • فليسقط مروجو المذابح وتجار الكراهية!

  • معارضة كافة أنواع التمييز على أساس الدين!

  • لا توافقات مع التيارات الرجعية والظلامية!

  • يجب أن يكون لكل رجل وامرأة الحق في اعتناق أي معتقد ديني أو عدم اعتناق أي دين!

  • من اجل الفصل التام بين الدين والدولة!

الجزء الثاني»

Translation: Marxy.com