الغداء والثورة الاشتراكية

إن علاقة الأمريكيين المختلة مع الغذاء هي محط سخرية دائمة في وسائل الإعلام وداخل الأوساط الأكاديمية. لكن الشيء الذي لا يتم تفسيره أبدا هو السبب الجذري لهذا الاختلال. تشرح الماركسية أن الظروف تحدد الوعي. إن بيئتك المادية والاجتماعية تؤثر بشكل كبير على الخيارات التي تقوم بها من خلال الحد من الخيارات التي تتوفر لك.

تستند قرارات معظم الأميركيين بشأن الطعام على دخلهم والوقت المتوفر لهم والوفرة والإشهار والمعايير الاجتماعية لأقرانهم وللمجتمع. وهذه المعايير الاجتماعية والثقافية مرهونة بالظروف المادية والإمكانيات مثلها في ذلك مثل الاختيارات الفردية. فإذا كان الغداء الرخيص والملائم - المعد علميا لتلبية حاجاتنا البيولوجية الأساسية من الدهون والملح والكربوهيدرات - هو كل ما يمكن لأغلبية الناس الوصول إليه ومعرفته ويمكنهم الحصول عليه، فما الذي كانوا سوف "يختارون"؟ ولكن الاختلال يذهب أبعد من ذلك.

الولايات المتحدة هي أغنى بلد في العالم، لكن رغم ذلك يعاني 49 مليون أمريكي، - بمن فيهم 15,9 مليون طفل - من "انعدام الأمن الغذائي". تعرف وزارة الزراعة الأمريكية انعدام الأمن الغذائي بكونه "ضعف أو عدم ضمان توفر الأطعمة المغذية والآمنة، أو ضعف أو عدم ضمان القدرة على الحصول على الأطعمة الملائمة بطرق مقبولة اجتماعيا". يتوجب على 4,8 مليون شخص ممن يعانون من "انعدام الأمن الغذائي" وعلى كبار السن الأمريكيين أن يختاروا بين شراء الأدوية أو التدفئة أو المواد الغذائية. والعديد منهم يجبرون على تلبية حاجاتهم الغذائية من خلال تناول طعام القطط. لقد صارت مجلات الطهي والكتب والبرامج التلفزيونية الخاصة بالطهي، أكثر شعبية من أي وقت مضى، لكن وبالرغم من ذلك وبسبب ضيق الوقت وقلة المال وضعف مهارات الطبخ والمعرفة، ما زال 50 مليون أميركي يعتمدون على الوجبات السريعة غير الصحية والتي تحتوي على عدد كبير من السعرات الحرارية، مما يؤدي إلى مستويات وبائية من السمنة وأمراض القلب والسكري من النوع 2 والتهاب المفاصل ومشاكل في الجهاز التنفسي وتليف الكبد والسكتة الدماغية، وغير ذلك.

إن الاستخدام العشوائي للمواد الكيماوية والمبيدات الحشرية يؤدي إلى تسميم إمدادات الغداء والبيئة. 80% من المضادات الحيوية المستهلكة في الولايات المتحدة تستخدم في المزارع، مما يؤدي إلى خطر تطور "الجراثيم" المقاومة للمضادات الحيوية. وعلى الرغم من كل هذا، فان عائد هذا النوع من الأغذية لا يتجاوز إلا بنسبة 20% إلى 25% عائد الأغذية "العضوية" الخالية من المواد الكيماوية ومن المضادات الحيوية. ما يهم الرأسماليين هو إنتاج السلع التي ستباع في السوق - وليس الغداء. لا يهمهم نوعية المواد الغذائية التي يتم إنتاجها، فالهدف الوحيد هو تحقيق أقصى قدر من الأرباح. ليس حجم الإنتاج الغذائي هو الذي يشوه السلسلة من المزرعة إلى المائدة، بل السعي نحو الربح.

ليست المسألة هي فقط الكمية التي يمكن إنتاجها، بل مدى كفاءة استخدام الغذاء المنتج بالفعل. في الولايات المتحدة يضيع ما يقدر بـ 40% من المواد الغذائية أو تتعفن أو ترمى، في المستودعات والمطاعم ومحلات البقالة والثلاجات المنزلية. وبدلا من تطوير مصادر الطاقة المتجددة مثل الرياح والطاقة الشمسية والبلازما، يتم استخدام 40% من الذرة التي تزرع في الولايات المتحدة لإنتاج وقود الإيثانول - المدعوم بشكل كبير بمليارات الدولارات من الميزانية العامة للشركات الكبيرة التي تتواطأ مع الحكومة لجني أرباح فاحشة.

تنتج البشرية الآن من الطعام ما يكفي لإطعام 10 ملايير شخص، لكن رغم ذلك تشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة أن ما يقرب من 870 مليون من أصل 7,1 مليار شخص في العالم يعانون من نقص مزمن في التغذية. يعاني 100 مليون طفل في البلدان الفقيرة من نقص التغذية؛ يعاني واحد من كل أربعة من التقزم[1]؛ ويموت 3,1 مليون شخص كل عام بسبب سوء التغذية. سيكون كافيا إنفاق3,2 مليار دولار لإطعام الستة والستين مليون طفل في العالم النامي الذين يذهبون إلى المدرسة جائعين - والتي تساوي مجرد 1/24 من القيمة الصافية لثروة "المحسن الكبير" وأغنى شخص في العالم، بيل غيتس. إن هذه الهمجية المروعة في عالم الوفرة الفاحشة تمثل محرقة صامتة للملايين من الناس الذين يموتون كل سنة بسبب المنطق المريض للرأسمالية.

قبل أكثر من7500 سنة، مثلت الثورة الزراعية للعصر الحجري الحديث نقطة تحول حاسمة في التاريخ البشري. فللمرة الأولى صار في الإمكان إنتاج ما يكفي من الغذاء لإطعام عدد هائل من السكان المستقرين وتحرير آخرين ليصبحوا متخصصين في هذا المجال أو ذاك، مما أدى في النهاية إلى ظهور الطبقات والدولة. لكن بالرغم من هذه التطور التاريخي الهائل في التنظيم الاجتماعي والإنتاجية، فقد ظلت الزراعة طيلة آلاف السنين فريسة لنزوات الطقس والآفات والأمراض. وفي الماضي غير البعيد، كان البشر يموتون جوعا لأنهم ببساطة لم يكونوا قادرين على إنتاج ما يكفي من الغذاء أو بسبب نقص المحاصيل. أما اليوم فإن المزارعين يحصلون على المال من أجل تدمير المحاصيل أو عدم الزراعة أصلا. وتخبئ ملايين الأطنان من المواد الغذائية في المستودعات من أجل دفع الأسعار إلى الارتفاع بشكل مصطنع. إن الجوع اليوم نتيجة لأوضاع هيكلية وسياسية، وليس نتيجة لعدم القدرة على زراعة ما يكفي من الغذاء.

في الوقت الذي يسمح فيه التقدم التكنولوجي لنسبة ضئيلة من السكان العاملين في العالم بإطعام مستدام لكل سكان الكوكب عدة مرات، يضيع 1,5 مليار شخص مجهوداتهم في حراثة قطع أرض صغيرة عقيمة، ويبقى العديد منهم جائعين. ما زالت الاحتجاجات بسبب نقص الغذاء شائعة في أجزاء كثيرة من العالم، وذلك ليس لأنه لا يوجد غذاء، بل فقط لأن مئات الملايين من الناس لا يستطيعون شرائه. وبعد عقود من الفرص لإثبات العكس، فإن الحكم واضح: إن الرأسمالية غير قادرة على إطعام الجميع على هذا الكوكب. ووجه العبث في المسألة هو أن ذلك لا علاقة له مع الإمكانات الإنتاجية للبشرية، بل بسبب الهياكل التي خلقناها بنفسنا.

إن التقدم المحقق في مجال علوم التغذية والزراعة يمكنه أن يسمح لنا بإنتاج غذاء وفير وصحي وآمن وشهي للجميع. يمكن للإنسانية أن تنتج مجموعة متنوعة وهائلة من الأطعمة، سواء من أجل ضمان الأمن الغذائي ضد الآفات والأمراض وتغير المناخ من خلال التنوع الزراعي، أو للحفاظ على وجبات طعام جيدة. تمكن البنية التحتية الموجودة من تطوير شبكة واسعة من المطاعم العامة التي تقدم وجبات غذائية لذيذة وجيدة وبأسعار معقولة. يمكن أن يتحول الطهي والأكل في المنزل إلى نشاط اجتماعي للمتعة، وليس عملا شاقا إجباريا كما هو الحال الآن بالنسبة لملايير البشر. وباختصار، فإن المعرفة والتكنولوجيا والإمكانات الجماعية لإحداث تغيير كلي في الطريقة التي يأكل بها العالم الآن، لكن ما لا يوجد هو بنية اجتماعية تسمح بمقاربة عقلانية ومتوازنة لإنتاج الأغذية وتوزيعها وإعدادها واستهلاكها.

يريد الكثير من الناس القيام بشيء حيال الغذاء والمشكلة البيئية المرتبطة به بشكل وثيق. لكن كل الاقتراحات تقريبا تقتصر على إحداث ترقيعات مع الإبقاء على النظام القائم أو مناشدة حسن نية الأغنياء والأقوياء. هذه هي الطوباوية. ففي نظام يقوده ويحدده إنتاج السلع والمال، ما يهم الرأسماليين ليس نوعية الغذاء أو الصحة البشرية، بل زيادة الأرباح إلى أقصى حد. إن حل هذا الانفصال بين الإمكانيات والواقع لا يوجد في إلقاء اللوم على الأفراد بسبب "خياراتهم الفردية"، أو في تغيير هذا الجانب أو ذاك من الوضع الراهن، إن الحل لهذا التشويه الجسيم لواحدة من أهم المكونات لحياة الإنسان لا يمكن أن يأتي إلا من خلال القضاء على النظام الرأسمالي نفسه.

Translation