الماركسيون والدعوة إلى الانتفاضة: ما الذي يعنيه ذلك؟

كثيرا ما يتم وصف الاحتجاجات والمظاهرات التضامنية مع الشعب الفلسطيني، الذي يتعرض للذبح من طرف الجيش الإسرائيلي، بأنها تحريض معاد للسامية على العنف ضد اليهود. وهذا جزء من حملة واعية لتجريم وإسكات الحق الديمقراطي المشروع في التعبير عن الدعم لشعب مضطهَد. وقد تعرض استخدام مصطلح “الانتفاضة”، على وجه الخصوص، حتى عندما يستخدم من قبل الشيوعيين في التيار الماركسي الأممي، للإدانة من طرف المؤسسات الغربية. لكن ما هو موقف الشيوعيين من معاداة السامية، وما هي الطبيعة الحقيقية للانتفاضة الأولى؟

[Source]

لا يمكن اعتبار دعم حق الشعب الفلسطيني في الانتفاض دفاعا عن حقه في وطن يعيش فيه بسلام؛ ومعارضة الطبقة السائدة الصهيونية، على أنه موقف معاد لليهود. وقبل كل شيء هناك العديد من اليهود ممن هم مناهضون للصهيونية. نحن الشيوعيون الثوريون نعارض معاداة السامية كما نعارض جميع أشكال العنصرية والتمييز. لكن ماذا نعني بمعاداة السامية؟ إنها شعور الكراهية تجاه جميع اليهود، لمجرد أنهم يهود، مثلما هي الإسلاموفوبيا شعور بالكراهية تجاه جميع المسلمين، لمجرد أنهم مسلمون.

معاداة السامية، مثلها مثل جميع أشكال التعصب، سم تنشره الطبقات السائدة كوسيلة لتقسيم الطبقة العاملة، وعرقلة خوضها للصراع الطبقي بصف موحد. كما تُستخدم مثل هذه التحيزات أيضا لحشد دعم الفئات الأكثر تخلفا في المجتمع، وتحويل انتباه الشعب بعيدا عن المصدر الحقيقي لمشاكله (الفقر واللامساواة الناتجين عن الرأسمالية) نحو كبش فداء.

يمكن استخدام هذه الأفكار، في أوقات الأزمات الحادة، كنقطة محورية لتنظيم قوى الرجعية، بهدف التدمير المادي للحقوق والمنظمات التي اكتسبها العمال على مدى أجيال عديدة من الصراع الطبقي. عمل النازيون على إلقاء كل اللوم في الأزمة الاقتصادية التي ضربت بشدة ألمانيا، في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، على اليهود. لقد دعمت الطبقة السائدة الألمانية تلك السياسة -التي كانت لها عواقب وخيمة على اليهود في ألمانيا وجميع الأراضي التي احتلها النازيون في أوروبا- لأنها كانت وسيلة فعالة لصرف الانتباه بعيدا عن أولئك الذين يتحملون المسؤولية الحقيقية عن الأزمة، أي: الطبقة الرأسمالية.

الشيوعيون ضد معاداة السامية

لقد عارضت الأممية الشيوعية والشيوعيون الألمان معاداة السامية في ذلك الوقت. وهذا ما قاله لينين حول هذه المسألة في عام 1919:

ليس اليهود هم أعداء الكادحين. أعداء العمال هم رأسماليو جميع البلدان. يوجد بين اليهود عمال وكادحون وهم الأغلبية. إنهم إخواننا، رفاقنا في النضال من أجل الاشتراكية، لأن الرأسمالية تضطهدهم. كما يوجد بين اليهود كولاك، ومستغِلون، ورأسماليون، كما هو الحال بيننا جميعا. [التأكيد من عندي]

إن الرأسماليين لا يكلون في مساعيهم لإثارة العداوة بين العمال من مختلف الأديان والأمم والاثنيات المختلفة. إن اليهود الأغنياء، مثلهم مثل الأغنياء الروس وأغنياء جميع البلدان، متحدون في سحق العمال واضطهادهم وتقسيمهم.

الخزي والعار للقيصرية اللعينة التي عذبت واضطهدت اليهود! الخزي والعار لمن يزرع العداء ضد اليهود والكراهية ضد الأمم الأخرى! عاشت المشاعر الأخوية والوحدة في النضال لجميع الأمم من أجل الإطاحة بالرأسمالية!”[1].

وسيرا على خطى لينين في عام 1919، نعارض نحن الشيوعيون اليوم بشدة معاداة السامية. كما أننا نعارض أيضا طبقاتنا السائدة الإمبريالية في بلداننا الرأسمالية المتقدمة، التي تقف اليوم بثبات خلف دولة إسرائيل باعتبارها عميلا موثوقا به للإمبريالية الغربية في الشرق الأوسط.

وهذا هو السبب الذي يجعل الإمبرياليين، وأبواقهم في وسائل الإعلام، يشنون حملة منهجية لتصوير أي انتقاد لدولة إسرائيل اليوم على أنه انتقاد معاد للسامية. وهذا يشبه القول بأن معارضة المؤسسة السياسية البريطانية والإمبريالية البريطانية وحزب المحافظين وجميع الزخارف الرجعية للدولة البريطانية، هو عداء ضد الشعب البريطاني بشكل عام.

لقد أصبح الزعماء الإصلاحيون اليمينيون، مثل زعيم حزب العمال كير ستارمر، من أقوى المدافعين عن حملة التشهير هذه. فهم، من ناحية، حريصون على أن يظهروا للطبقة السائدة أنه يمكن الوثوق بهم للدفاع عن المصالح الرأسمالية في الداخل والخارج، والتمسك بـ”الحلفاء” الغربيين. ومن ناحية أخرى، كانت الادعاءات الكاذبة بمعاداة السامية سلاحا مهما في حرب البليريين ضد الجناح اليساري لحزب العمال، بقيادة جيريمي كوربين، الذي هو نفسه مساند قديم لحقوق الشعب الفلسطيني. وتظل تهمة معاداة السامية بمثابة عصا غليظة في أيدي الاشتراكيين الشوفينيين لضرب اليسار.

إنها لحقيقة مؤسفة أن العديد من القادة اليساريين المزعومين قد استسلموا أمام ضغوط الطبقة السائدة، ويرفضون النضال ضد حملة الأكاذيب والافتراء هذه. وفي المقابل يرفض الشيوعيون بشدة هذه المحاولة الوقحة لإسكات صوت التضامن المشروع مع الشعب الفلسطيني. ونحن لا نقتصر على تحليل سطحي للوضع الحالي، بل نهدف إلى وضعه في سياقه التاريخي.

لسنا في حاجة إلى تكرار ما شرحناه بإسهاب في مقالات أخرى. ويكفي أن نقول إن دولة إسرائيل تم إنشاؤها من خلال تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من وطنهم في 1947-1948. كانت الهجمات الإرهابية على القرى الفلسطينية، وقتل المئات منهم، هي الطريقة المستخدمة لتحقيق التطهير الاثني على نطاق واسع.

ومنذ ذلك الحين، استمر وضع الشعب الفلسطيني في التدهور، خاصة بعد حرب عام 1967، التي شهدت احتلال إسرائيل الدائم لغزة والضفة الغربية ومرتفعات الجولان. منذ الجزء الأخير من السبعينيات، تم استعمار الضفة الغربية بشكل منهجي، وقُتل آلاف الفلسطينيين، واعتقل العديد منهم، وحدثت المزيد من عمليات التهجير.

هذا هو السياق الذي يتعين علينا أن ننظر فيه إلى الانتفاضة الأولى، التي اندلعت في نهاية عام 1987. ولن يتسن لنا التوصل إلى فهم حقيقي لما تعنيه فعليا الدعوة إلى الانتفاضة إلا من خلال تناول المسألة بهذه الطريقة.

جاءت الانتفاضة الأولى بعد عقد من الاستعمار المنهجي للأراضي الفلسطينية من قبل المستوطنين الإسرائيليين، والذي بدأ مع وصول حزب الليكود، بزعامة مناحيم بيغن، إلى السلطة. كما أصبح الاقتصاد في الأراضي المحتلة معتمدا كليا على إسرائيل. وكانت هذه السيرورة قد وصلت إلى مرحلة متقدمة جدا عندما اندلعت الانتفاضة الأولى.

وعلاوة على النكبة التاريخية التي حلت بالشعب الفلسطيني، نكبة 1948، كان هناك عدد من النكسات المتتالية التي تعرض لها الفلسطينيون؛ فمن احتلال عام 1967، الذي شهد فرار المزيد من اللاجئين من المنطقة؛ إلى الهزيمة العسكرية على يد الجيش الأردني عام 1970؛ إلى المجازر التي شهدها جنوب لبنان في أوائل الثمانينات.

قبل اندلاع الانتفاضة، كانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قد اضطرت للذهاب إلى المنفى في تونس، وكانت بعيدة كل البعد عن فهم مزاج الإحباط والغضب الذي كان يتطور بين الجماهير الفلسطينية. وهذا ما يفسر دهشتها عندما اندلعت الانتفاضة أخيرا.

وضع مشتعل ينتظر الانفجار

لم يكن من الصعب للغاية، بالنسبة لأي شخص كان على علم بالظروف على الأرض، رؤية ما الذي أثار مثل تلك الحركة الجماهيرية. فما بين عامي 1982 و1986، تضاعف عدد المستوطنين في الضفة الغربية ثلاث مرات، حيث أصبحت 50% من الأراضي تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، وتم تحويل أكثر من 80% من إمدادات المياه إلى إسرائيل والمستوطنات.

وقد ترافق كل هذا مع تزايد مجموعات المستوطنين اليهود المسلحين والمدعومين من الجيش الإسرائيلي، والذين كانوا يمارسون الارهاب ضد السكان الفلسطينيين. وكانت غزة، على وجه الخصوص، توصف بأنها “طنجرة ضغط جاهزة للانفجار”[2].

وفي الفترة نفسها، من عام 1985 وحتى اندلاع الانتفاضة الأولى في دجنبر 1987، كانت هناك حركة احتجاجية متنامية في الأراضي المحتلة، مما أدى إلى زيادة حملات الاعتقال والاحتجاز ضد الشباب الفلسطيني.

وقد كان العامل الذي أدى إلى الانفجار في النهاية هو الحادث الشهير الذي وقع في غزة يوم 07 دجنبر 1987، عندما صدمت شاحنة تابعة للجيش الإسرائيلي سيارة للفلسطينيين، مما أدى إلى مقتل أربعة عمال فلسطينيين. كانت تلك هي الشرارة التي أشعلت النار في الأراضي الفلسطينية، وامتد الحريق من غزة إلى الضفة الغربية بأكملها.

كانت أهم ميزة للانتفاضة الأولى هي الطبيعة الجماهيرية للحركة، وحقيقة أنها كانت في البداية بقيادة العمال والشباب الفلسطينيين في الأحياء. ومنذ ذلك الحين، جرت محاولات لطمس الطبيعة الحقيقية لتلك الحركة، وتقديمها على أنها مجرد انفجار عنيف يهدف إلى تدمير إسرائيل واليهود الذين يعيشون هناك. لكن ذلك غير صحيح إطلاقا.

لم تكن للأساليب التي استخدمتها الانتفاضة أية علاقة بأساليب حرب العصابات أو الإرهاب، بل استخدمت الإضرابات العامة والعصيان المدني، مثل الامتناع عن أداء الضرائب وإغلاق المتاجر. تم انتخاب لجان شعبية في جميع الأحياء، والتي، إلى جانب قيامها بتنظيم الإضراب العام، تمكنت أيضا من توزيع الإمدادات الأساسية. وبحلول منتصف العام التالي (1988) قُدر أنه تم إنشاء أكثر من 40.000 لجنة من هذا القبيل. وللحصول على وصف أكثر تفصيلا لوظائف تلك الهيئات، اقرأوا: “تاريخ إسرائيل-فلسطين حتى عام 1993“.

وعندما يرفع الشيوعيون الثوريون شعار الانتفاضة، فهم يقصدون الإشارة مباشرة إلى تلك الحركة الجماهيرية التي اشعلها الشعب الفلسطيني في 1987-1988، باستخدام أساليب الصراع الطبقي. لقد كانت الطبيعة الجماهيرية للانتفاضة على وجه التحديد هي التي كشفت للجماهير الفلسطينية قوتها ورفعت وعيها الطبقي. كما كان لها تأثيرها داخل إسرائيل نفسها، كما سنوضح لاحقا.

قد يرد البعض بالقول إن هذا تفسير شيوعي متحيز لتلك الأحداث. لكن مشكلتهم هي أن الحقيقة ملموسة، ولديها ميل إلى الظهور في النهاية، رغم كل محاولات تزييفها.

وفي هذا السياق، فلنتأمل مقالا مثيرا للاهتمام نُشر مؤخرا في مجلة فورين بوليسي (14 دجنبر 2023)، بعنوان: “تعريف حق الفلسطينيين في المقاومة”، تحت عنوان فرعي: “ماذا يعني القول إن الانتفاضة ضد الظلم غير مسموح بها؟”. المؤلف هو هوارد فرينش، وهو حاليا كاتب عمود في مجلة فورين بوليسي، وأستاذ في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كولومبيا. وكان قد اشتغل في السابق مراسلا وكاتبا بارزا في صحيفة نيويورك تايمز، وكاتبا في صحيفة إنترناشيونال هيرالد تريبيون.

وطبعا لا يمكن، بأي حال من الأحوال، اعتبار مجلة فورين بوليسي وصحيفة نيويورك تايمز وإنترناشيونال هيرالد تريبيون مناهضين لإسرائيل أو مؤيدين لحماس، أو أنهم متعاطفين مع الأفكار الشيوعية. إنها كلها صحف برجوازية، يمكننا أن نقول إنها من النوع الليبرالي، مما يعني أنها أبواق للطبقة الرأسمالية، وللمؤسسة السياسية في الولايات المتحدة.

في الواقع، يبدأ هوارد فرينش بتوضيح موقفه بشكل جلي: “إن حماس تستحق تماما أي عقاب تتعرض له”. وبعد أن أثبت أوراق اعتماده، يضيف أن: “الشعب الفلسطيني لا يستحق هذا العقاب…” ويواصل تطوير فكرة أن الفلسطينيين لديهم الحق في النضال من أجل وطن من نوع ما.

وهذا لا يتناقض من حيث الجوهر مع الموقف الأخير للإمبريالية الأمريكية، والذي يدعو إسرائيل الآن إلى أن تكون أكثر حذرا في هجماتها على غزة. لكن هؤلاء السادة لا يفسرون، بطبيعة الحال، كيف يمكن لجيش يسعى إلى تدمير قواعد ومقاتلي حماس، المتمركزين في جميع أنحاء غزة، أن يحقق ذلك دون وقوع إصابات كبيرة في صفوف المدنيين.

في الحقيقة، يقوم الإمبرياليون بتنفيذ عملية علاقات عامة يواصلون من خلالها دعم إسرائيل، وتزويدها بالسلاح والتمويل الذي تحتاجه لمواصلة مذبحتها، بينما يتظاهرون في الوقت نفسه بأنهم مهتمون بالسكان المدنيين في غزة. وهذه حيلة مفضوحة لاسترضاء الرأي العام في الداخل؛ ومحاولة لتصوير أنفسهم على أن لديهم مخاوف إنسانية، بينما هم في الواقع يدعمون المذبحة.

إن ما يقلقهم حقا ليس محنة الشعب الفلسطيني، بل الاضطراب الذي يخلفه الوضع الحالي على منطقة الشرق الأوسط برمتها، مع خطر اتساع نطاق الصراع، والتأثير الكبير الذي قد يكون لذلك على إمدادات النفط والغاز، وعلى الطريق التجاري المهم الذي يمر عبر البحر الأحمر وقناة السويس، والذي بدأ يختنق بالفعل بفعل هجمات المسلحين الحوثيين من غرب اليمن.

الانتفاضة الأولى كانت حركة جماهيرية شعبية

إن تفسير هوارد فرينش لحقيقة الانتفاضة الأولى مثير للاهتمام للغاية، خاصة أنه منشور في مجلة تدافع عن مصالح الإمبريالية الأمريكية.

“كان هناك قدر ضئيل للغاية من الوضوح بشأن معنى ودلالات كلمة الانتفاضة… فهي مشتقة من الفعل العربي “نفض”، بمعنى نفض الغبار عن ملابسه، على سبيل المثال، أو نفض السبات. كلمة الانتفاضة، إذن، تترجم حرفيا على أنها “هزة” أو “ارتعاشة”، أو عند استخدامها في سياق سياسي، “تمرد شعبي”. إنها لا تعني إبادة جماعية” [خط التأكيد من عندي].

ويضيف:

“لقد أصبحت كلمة الانتفاضة مألوفة لدى قراء الأخبار في جميع أنحاء العالم في عام 1987، عندما تم استخدام المصطلح لوصف الانتفاضة الشعبية التي قام بها الفلسطينيون في ذلك العام ضد إسرائيل. بدأت تلك الانتفاضة، التي استمرت حتى أوائل التسعينيات وأصبحت تُعرف باسم الانتفاضة الأولى، حركة احتجاجية سلمية إلى حد كبير تضمنت أعمال العصيان المدني، مثل الإضرابات والمقاطعة، لكنها أصبحت أكثر عنفا في وقت لاحق، وذلك جزئيا كرد فعل ضد الرد الأمني الإسرائيلي القاسي“. [خط التأكيد من عندي].

يقول بايليس توماس في كتابه “كيف انتصرت إسرائيل: تاريخ موجز للصراع العربي الإسرائيلي”[3] الصادر عام 1999، ما يلي:

كانت الانتفاضة بلا شك حركة شعبية فاجأت كلا من الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية على حد سواء (منظمة التحرير الفلسطينية لم تشجعها ولم تمولها). ويبدو أن [رئيس الوزراء آنذاك إسحاق] شامير و[رئيس الوزراء اللاحق آرييل] شارون كانا يعتقدان أنه، نظرا لإضعاف منظمة التحرير الفلسطينية، فإن الخنوع الفلسطيني في ظل الاحتلال سيستمر إلى الأبد. وفي الواقع، لم يؤد ضعف منظمة التحرير الفلسطينية إلا إلى زيادة اليأس الشعبي، وعزز النشاط الجديد والاعتماد على الذات على المستوى المحلي”. [خط التأكيد من عندي].

ثم يتابع ليشرح كيف اجتمعت اللجان المحلية معا كهيئة منظمة:

“في البداية، تحركت المجتمعات المحلية بشكل منفصل. وفي وقت لاحق، ظهرت قيادة واسعة تضم العديد من الفصائل، تسمى القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة. وفي البداية لم تشارك النخبة التقليدية للحركة القومية الفلسطينية (المهنيين والصحفيين والأكاديميين). تحت الأرض، كانت المنظمة [القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة] تتواصل من خلال منشورات تطبع وتوزع سرا في الليل. وبدأت المقاومة العفوية المجزأة للاحتلال تكتسب صوتا موحدا من خلال إعلانات القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة عن الإضرابات التجارية وإضرابات النقل، والمظاهرات الحاشدة، والاحتجاجات وحملات التضامن، مثل رفع الأعلام، والصلاة، والصوم، ومشاريع العمل، والمسيرات، وأنشطة التبرع. وقد تمت إدانة إسرائيل والولايات المتحدة بشدة، على الرغم من عدم التركيز على الشعب اليهودي. لم تشجع القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة العنف، لكن رشق الحجارة والقنابل الحارقة كانت لا مفر منها. [خط التأكيد من عندي].

ركزت الانتفاضة في المقام الأول على الاحتجاج على ظروف الاحتلال. تدريجيا، استشارت القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة منظمة التحرير الفلسطينية حول كيفية التعامل مع انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي المحلية -كيفية إطلاق سراح السجناء السياسيين، ووقف النشاط الاستيطاني ومصادرة الأراضي، وتجنب الضرائب الإسرائيلية المختلفة، وإزالة القيود المفروضة على المنتجات الصناعية والزراعية المصدرة من الأراضي الفلسطينية”.

ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ حقيقة أن الانتفاضة، في البداية، لم تكن خاضعة لسيطرة منظمة التحرير الفلسطينية، بل كان هناك في الواقع انفصال بين النشطاء الذين يقودون الحركة في الأحياء، وبين منظمة التحرير الفلسطينية في المنفى. يقدم تشارلز د. سميث وصفا واضحا لذلك في كتابه الصادر عام 2004، “فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي- تاريخ بالوثائق”[4]:

“كانت الانتفاضة انتفاضة عفوية لم توجهها أي لجنة أو منظمة عليا، وانتشرت بسرعة من غزة إلى الضفة الغربية. لقد حافظت على نفسها من خلال شبكة واسعة من اللجان المحلية التي تشكلت على مدى العقد الماضي والأحياء التي نظمت أنشطة المساعدة المتبادلة. كانت الانتفاضة، في جوهرها، عبارة عن تمرد للفقراء والشباب، وهم القطاعات الأقل حظا من السكان، الذين نظموا لجانا شعبية سعى ممثلو منظمة التحرير الفلسطينية بعد ذلك إلى استمالتها ووضعها تحت إشرافهم الخاص”. [خط التأكيد من عندي].

ويشير سميث إلى أنه: “تم اتخاذ قرارات مختلفة على الفور. إحداهما حصر الاحتجاجات في المظاهرات وإلقاء الحجارة؛ لقد تم حظر السكاكين والبنادق“. [خط التأكيد من عندي].

ومع ذلك، فلأن منظمة التحرير الفلسطينية كانت تعتبر دائما على أنها المعبر السياسي التقليدي عن الشعب الفلسطيني، فقد تمكن القادة المنفيون في نهاية المطاف من السيطرة على قيادة الانتفاضة، على الرغم من أنهم لم يلعبوا أي دور في إطلاقها. إلا أنه وفي غياب أي بديل، فقد نظرت القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة إلى منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها مرجعيتها السياسية الوحيدة.

ويسلط سميث الضوء على حقيقة مفادها أن: “منظمة التحرير الفلسطينية حاولت دائما تجريد القيادة المحلية من سلطتها، حتى ولو كان هؤلاء الأفراد يؤيدون أهداف منظمة التحرير الفلسطينية. آنذاك لم تعد الضرورة تتطلب التعاون فحسب، بل الاعتماد على المعلومات والمشورة من الأراضي [المحتلة]… وسرعان ما ظهرت الأجندات السياسية. وفي يناير 1988، دعت القيادة في الأراضي [المحتلة] إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، تحكمها منظمة التحرير الفلسطينية، وتتعايش مع إسرائيل”.[خط التأكيد من عندي].

وكانت تلك بداية تحرك قادة منظمة التحرير الفلسطينية نحو حل الدولتين، والتخلي عن موقفهم السابق المتمثل في دولة واحدة موحدة عبر كامل فلسطين التاريخية.

وكما يوضح سميث، فإن هذه الأفكار: “… تم الإعلان عنها في البداية من قبل أفراد غير مرتبطين بالانتفاضة، وهم رجال معروفون على نطاق واسع في العالم الخارجي باسم “المعتدلين”، مثل ساري نسيبة وفيصل الحسيني، الذين كانت لهما علاقاتهما الخاصة مع منظمة التحرير الفلسطينية في تونس. وباعتبارهما أعضاء في النخبة الاجتماعية، فقد نظرت إليهما كل من القيادة الشعبية ورؤساء لجان منظمة التحرير الفلسطينية بعين الريبة عندما تم الإعلان عن هذه النقاط لأول مرة“. [خط التأكيد من عندي].

وفي وقت لاحق، أصبحت خطة منظمة التحرير الفلسطينية للتوصل إلى اتفاق مع إسرائيل على أساس حل الدولتين “الأجندة الرسمية للانتفاضة”.

وهكذا تم الاستيلاء، في نهاية المطاف، على الانتفاضة، التي قادها نشطاء على الأرض في الأراضي المحتلة، من طرف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ووجهتها نحو ما أصبح طريقا مسدودا.

الدعوة للإضراب العام في يناير 1988

دعونا نعود إلى البدايات الأولى للانتفاضة على يد من كانوا يقودونها على الأرض. لقد كانت حركة تعتمد على أساليب الصراع الطبقي، وكان الإضراب العام عنصرا قويا فيها. ننشر هنا النص الكامل لـ”البيان رقم 01 للانتفاضة”، الصادر على شكل منشور في 08 يناير 1988 من قبل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، والذي يدعو إلى إضراب عام وإغلاق أماكن العمل:

“بسم الله الرحمن الرحيم

نداء

استمرارا لانتفاضة شعبنا المجيدة، وانطلاقا من ضرورة مواصلة روح النضال والتضامن مع أهلنا في كل مكان، ووفاء لدماء شهدائنا الزكية واخوتنا المعتقلين، وتعبيرا عن رفضنا للاحتلال وسياسته القمعية المتمثلة في سياسة الابعاد والاعتقالات الجماعية وحظر التجول وهدم البيوت، ومن أجل تحقيق المزيد من الالتحام والتكاثف مع ثورتنا وجماهيرنا الباسلة والتزاما بدعوة م. ت. ف الممثل الشرعي والوحيد بضرورة مواصلة العطاء والانتفاضة الباسلة، نتوجه بالنداء التالي:

على جميع قطاعات شعبنا البطل وفي كل مكان الالتزام بالدعوة للإضراب العام والشامل، من تاريخ 11 /1 / 1988م ولغاية مساء يوم الأربعاء الموافق لـ 13/ 1/ 1988م، ويشمل الاضراب كافة المرافق التجارية العامة والخاصة، وقطاع العمال الفلسطيني والمواصلات العامة، ويتم الالتزام بالإضراب الشامل التزاما تاما، وسيكون شعار الاضراب: ليسقط الاحتلال، عاشت فلسطين حرة عربية.

الاخوة العمال: إن التزامكم بالإضراب عن العمل والتوجه إلى المصانع دعم حقيقي للانتفاضة المجيدة، ولأهلنا، ووفاء لدماء شهدائنا الزكية ودعم للمطالبة بحرية أسرانا، وتثبيت بقاء إخوتنا المبعدين.

الاخوة أصحاب المحلات التجارية والباعة عليكم الالتزام التام بالدعوة للإضراب الشامل بأيام الإضراب، وكان التزامكم في السابق بالإضراب أروع صور التضامن والتضحية في سبيل انجاح موقف شعبنا البطل، وسنعمل جهدنا من أجل حماية مصالح تجارنا الشرفاء من ما يمكن أن تلوح به قوى الاحتلال ضدكم، ونحذر من مغبة الانجرار وراء بعض أذناب السلطة الاحتلالية بفتح المحال التجارية ونعدكم أننا سنقتص من بعض التجار الخونة في القريب العاجل، ومعا موحدين نصنع الانتصار.

الاخوة أصحاب شركات الباصات ومكاتب التاكسي: لن ننس موقفكم المشرف والرائع في دعم وإنجاح الإضراب الشامل يوم الصمود الفلسطيني وكلنا أمل فيكم في دعم الإضراب الشامل، ونحذر بعض أصحاب شركات الباصات من مغبة عدم الالتزام مما سيعرضهم للعقاب الثوري.

الاخوة الأطباء والصيادلة، عليكم أن تكونوا بحالة طوارئ من أجل تقديم يد العون للمرضى من أهلنا، وعلى الإخوة الصيادلة مزاولة أعمالهم بشكل اعتيادي، وعلى الإخوة الأطباء وضع الاشارة الخاصة “اشارة الطبيب” بشكل واضح للعيان.

تنبيه عام: نحذر من أن إمكانية السير على الطرق لن تكون آمنة بسبب الإجراءات التي تتخذ في سبيل المساعدة في تعزيز الإضراب الشامل ونحذر من أن موادا لزجة ستسكب على الشوارع الرئيسية والفرعية وفي كل مكان، بالإضافة إلى الحواجز، ومجموعات الفرق الضاربة المنتشرة في كافة أرجاء الوطن المحتل.

يا أهلنا، ويا أبناء شعبنا البطل: عليكم التزود بما يلزم من الحاجيات الضرورية لأيام الإضراب خلال الفترة التي تسبق أيام الإضراب.

تعميم: على المناضلين والإخوة أعضاء اللجان الشعبية ولجان الانتفاضة المنتشرة في مواقع العمل المختلفة، العمل على تقديم العون والمساعدة حسب الإمكانيات المتوفرة لقطاعات شعبنا المختلفة، وبشكل خاص للأسر المحتاجة من أهلنا، وعلى الفرق الضاربة ومجموعات الانتفاضة الشعبية الالتزام ببرنامج العمل المتوافر بين أيديكم، ومعا يدا بيد وبصوت عالي نردد جميعا:

“ليسقط الاحتلال، ليسقط الاحتلال”، “عاشت فلسطين حرة عربية”.”[5].

لا يمكن لأحد أن يشك في ما الذي تتم الدعوة له هنا: إنه إضراب عام جماهيري بهدف إنهاء الاحتلال وتحقيق وطن فلسطيني إلى جانب إسرائيل. وقد حظيت هذه الدعوة بتأييد كبير من طرف الشباب الفلسطيني والعمال وأصحاب المتاجر الصغيرة. لقد كانت حقا حركة حظيت بدعم ومشاركة الشعب بأكمله. لقد كانت قوية جدا لدرجة أنه كان لها تأثير حتى داخل المجتمع الإسرائيلي. لقد بعثت برسالة واضحة مفادها أن شعبا بأكمله يعارض الاحتلال الإسرائيلي، حتى أنها أثرت على بعض الجنود.

حجم الانتفاضة وتصميم الجماهير الفلسطينية أثر على بعض القوات الإسرائيلية بحقيقة أنهم محتلون غير مرغوب فيهم. وهذا ما يفسر التحاق البعض منهم -وإن كانوا أقلية صغيرة- بظاهرة “الرفض” (Refusenik) الشهيرة، حيث رفض قسم من الجنود الشباب الخدمة خارج حدود إسرائيل. من يدري إلى أي مدى كان من الممكن أن تصل هذه السيرورة لو لم تتم خيانة الانتفاضة؟ وهذا يفسر أيضا سبب تصميم الطبقة السائدة الصهيونية على سحق الانتفاضة.

ظهور حماس كفاعل

لاحظوا أن منشور القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة ينص بوضوح على أنهم يعترفون بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني. لم تلعب حماس أي دور مهم في المراحل الأولى من الانتفاضة الأولى. لم يتم تأسيسها كمنظمة منفصلة إلا في فبراير 1988، بعد اندلاع الانتفاضة، ولم تكن بعد بالقوة التي أصبحت عليها فيما بعد في غزة، رغم أنها كانت حاضرة كتجمع أقلية معارضة مهمة، وكانت تسعى إلى توسيع نفوذها على حساب منظمة التحرير الفلسطينية. في الواقع، كما يوضح بايليس:

“في مجال الخدمة الاجتماعية تمت أيضا استشارة الجماعات الإسلامية مثل جماعة الإخوان المسلمين والجهاد الإسلامي. وقد أبدت حماس، وهي جماعة منشقة من داخل جماعة الإخوان المسلمين، اهتماما نضاليا مبكرا بالانتفاضة”.

وعلينا أن نتذكر أن الطبقة السائدة الإسرائيلية في ذلك الوقت كانت تعتبر منظمة التحرير الفلسطينية التهديد الرئيسي لمصالحها. وعندما ظهرت حماس، اعتبرتها النخبة الصهيونية بمثابة ثقل موازن لمنظمة التحرير الفلسطينية. وفي نصه الصادر عام 2004، الذي اقتبسنا منه أعلاه، يشرح تشارلز. د. سميث جيدا الفكرة الكامنة وراء ذلك، إذ يقول:

“لقد شجع الاحتلال ومسؤولو المخابرات الإسرائيلية نمو الإخوان المسلمين في غزة منذ أواخر السبعينيات، من خلال التمويل وفرض قيود أقل على تحركاتهم من تلك التي كانوا يفرضونها على المعروفين بتعاطفهم مع منظمة التحرير الفلسطينية. لقد افترضوا أن زيادة الالتزام بالإسلام من شأنه أن يقوض الولاء لمنظمة التحرير الفلسطينية وأهدافها السياسية العلمانية. وقد سمح هؤلاء المسؤولون للطلاب المتشددين بالسفر من غزة إلى جامعة بير زيت في رام الله، خارج القدس، لمهاجمة أنصار منظمة التحرير الفلسطينية، وقال حاكم غزة الإسرائيلي لأحد الصحفيين إن “الحكومة الإسرائيلية أعطتني ميزانية والحكومة العسكرية تعطي للمساجد”.

وهكذا نرى كيف أن التنظيم الذي يقف وراء هجوم 07 أكتوبر 2023 على جنوب إسرائيل، كان في الأصل مدعوما من قبل السلطات الإسرائيلية وتحت رعايتها. وقد استمر التفكير المحرك لهذه السياسة متواصلا، بشكل أو بآخر، حتى وقت قريب جدا.

وقد جاء في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز، في 12 دجنبر، بعنوان: “شراء الهدوء”: الخطة الإسرائيلية التي دعمت حماس، ما يلي:

” كانت الحكومة القطرية، طيلة سنوات، ترسل ملايين الدولارات شهريا إلى قطاع غزة، وهي الأموال التي ساعدت في دعم حكومة حماس هناك. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يتساهل فقط مع هذه المدفوعات، بل شجعها أيضا”.

ويشير المقال نفسه إلى أن نتنياهو رأى في حماس “رصيدا سياسيا” (Political asset) ويوضح قائلا:

“منذ دجنبر 2012، أخبر نتنياهو الصحفي الإسرائيلي البارز، دان مارغاليت، أنه من المهم الحفاظ على حماس قوية، كثقل موازن للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. وقال السيد مارغاليت، في مقابلة أجريت معه، إن نتنياهو أخبره أن وجود خصمين قويين، بما في ذلك حماس، من شأنه أن يقلل الضغط عليه للتفاوض من أجل إقامة دولة فلسطينية”.

كل هذا يفضح النفاق المطلق لنتنياهو وأصدقائه اليمينيين المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية اليوم، الذين تعاونوا على مدى سنوات عديدة في السماح بوصول التمويل إلى إدارة حماس في غزة. من وجهة نظر نتنياهو، كانت هذه سياسة جيدة لأنها تبقي غزة، التي تديرها حماس، منفصلة عن الضفة الغربية، التي تديرها السلطة الفلسطينية، والتي تسيطر عليها فتح (القوة السياسية المهيمنة داخل منظمة التحرير الفلسطينية). ويعتبر هذا الانقسام وسيلة لإضعاف الشعب الفلسطيني ومنع ظهور أي شكل من أشكال دولة فلسطينية مستقلة على الإطلاق. كما أن الأساليب العنيفة التي تبنتها حماس اعتُبرت في الواقع مفيدة للدعاية الصهيونية داخل إسرائيل، لأنها ساعدت في حشد السكان الإسرائيليين خلفها، وأعطت ذريعة مناسبة لحملاتها العسكرية الوحشية على غزة.

وقع حدث مثير للاهتمام في ربيع عام 1988، في ذروة الانتفاضة الأولى. ويشرح تشارلز د. سميث ما حدث قائلا:

“من وجهة النظر الفلسطينية، كان للانتفاضة جانبان، فهي مقاومة شعبية للقمع الإسرائيلي وعرض للتعايش بمجرد إنشاء دولة فلسطينية. كان لكلا المسارين نفس الهدف، وهو التخلص من الهيمنة الإسرائيلية، لكن المسار الثاني كان يمثل تهديدا لمعظم السياسيين الإسرائيليين مثله مثل الأول. بالنسبة للقادة الإسرائيليين لا يمكن أن تكون العلاقة الإسرائيلية العربية علاقة مساواة. وكان العرب الذين تبنوا خيار التسوية يُسجنون في كثير من الأحيان. فعلى سبيل المثال، تمت دعوة اثنين من المحامين العرب من غزة للتحدث عن أهداف الانتفاضة في تجمع في جامعة تل أبيب في ربيع عام 1988. وقد فعلا ذلك، ودعيا إلى التعايش السلمي في دولتين منفصلتين. لكن في غضون أسبوعين، تم القبض على كل منهما وحكم عليهما بالسجن لمدة ستة أشهر دون أي تهمة في سجن “أنصار 3″، وهو سجن جديد تم بناؤه في النقب. ولم يكن لدى منظمي المؤتمر الإسرائيليين أدنى شك في أسباب هذا الاعتقال: فالدفاع عن السلام كان مرة أخرى أكثر تهديدا من اللجوء إلى العنف“. [خط التشديد من عندي]

وهنا نرى كيف أن إسرائيل لم تكن مهتمة على الإطلاق بإقامة علاقات سلمية مع الفلسطينيين. وفي الواقع، كان يُنظر إلى أولئك الذين يدافعون عن الأساليب السلمية على أنهم تهديد. وكان يُنظر لأي شيء من شأنه أن يؤثر، بأي شكل من الأشكال، على وعي الإسرائيليين العاديين -وكانت الانتفاضة الأولى قد بدأت في إحداث ذلك التأثير- على أنه أكثر خطورة من جميع الهجمات الإرهابية الفردية التي أدت إلى مقتل يهود إسرائيليين عاديين. كلبية الصهاينة تظهر هنا واضحة للجميع.

من أين أتى العنف؟

دعونا نعد إلى طبيعة الانتفاضة الأولى. إن النقطة التي أثارها هوارد فرينش بشأن تحول الانتفاضة إلى العنف في مواجهة القمع الإسرائيلي هي نقطة مهمة. في سلسلة من ستة أجزاء لهيئة الإذاعة البريطانية عام 1998، بعنوان حرب الخمسين عاما: إسرائيل والعرب (انظر هذا المقال)، تم الكشف عن أن قسما من الحكومة الإسرائيلية اقترح طريقة سريعة وقاسية تتمثل في إطلاق النار على الحشود لقتل ألف فلسطيني من أجل “سحق الانتفاضة”. لكن بقية أعضاء مجلس الوزراء رفضوا ذلك الأسلوب، لأنهم فهموا أنه سيكون له تأثير معاكس. إلا أن هذا لا يعني أنهم اعتمدوا نهجا ناعما. بل على العكس تماما!

في الأشهر القليلة الأولى، قُتل 160 متظاهرا، معظمهم من المراهقين. كما صدر أمر “بتكسير العظام”، مما أدى إلى قيام قوات الجيش الإسرائيلي بضرب المتظاهرين الفلسطينيين الشباب بشدة بهدف كسر أيديهم وأرجلهم. ورافق ذلك تفجير مئات المنازل، فضلا عن فرض شروط صارمة لحظر التجول. فما بين عامي 1988 و1989، تم إصدار 1600 أمر بحظر التجول، وتم قتل أولئك الذين خالفوا، لأي سبب من الأسباب، حظر التجول بالرصاص على الفور.

وخلال الأشهر الثمانية عشر الأولى، قُتل 574 فلسطينيا، إما بالرصاص أو بالضرب حتى الموت. وبحلول نهاية العام الثاني، قُتل حوالي 700 فلسطيني، وأصيب ما بين 15 و20 ألف آخرين. وارتفع عدد المعتقلين أو المسجونين إلى 50 ألف شخص، والعديد منهم تعرضوا للتعذيب على أيدي خاطفيهم، وفقا لمنظمة العفو الدولية.

بحلول عام 1991، ارتفع عدد الفلسطينيين الذين قتلوا خلال الانتفاضة إلى 1135، وفقا لمنظمة مراقبة السلام. وبحلول يونيو 1993، تم اعتقال أو سجن 400 ألف فلسطيني، وبحلول عام 1994، ارتفع عدد القتلى إلى 2000 شخص.

ومع ذلك فقد اتخذت لجان القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة قرارا واعيا بعدم حمل السلاح. لذلك فإنه عندما تقوم وسائل الإعلام والحكومات الغربية اليوم، ومعها الحكومة الصهيونية في إسرائيل، بتوجيه أصابع الاتهام إلى أي شخص يرفع شعار الانتفاضة، فإنهم يعملون على حجب الحقيقة عن عمد. لم يأت العنف من منظمي الانتفاضة، بل من قوات الأمن الإسرائيلية، كما توضح ذلك بشكل جلي الأرقام المذكورة أعلاه.

وفي مواجهة القمع الوحشي، بدأ الفلسطينيون المضطهَدون في القتال بكل ما هو متوفر لهم. وهذا ما يفسر سبب وجود عدد من الاحتجاجات العنيفة -لكن غير المسلحة- ضد الاحتلال الإسرائيلي. لكن ذلك العنف اقتصر بشكل رئيسي على إلقاء الحجارة، واستخدام زجاجات المولوتوف، وحرق الإطارات في الشوارع، وبناء الحواجز لصد تقدم الجيش الإسرائيلي. لقد كانت معركة غير متكافئة على الإطلاق، حيث واجه شعب مضطهَد أعزل قوات عسكرية متفوقة إلى حد كبير.

وفي النهاية، كما رأينا، استولت منظمة التحرير الفلسطينية على قيادة الانتفاضة واستخدمتها لتوجيه العملية برمتها نحو اتفاقيات أوسلو عام 1993. وقد أوضحنا في مكان آخر كيف كانت تلك الاتفاقيات خيانة كاملة للتطلعات الحقيقية للشعب الفلسطيني. وهذا، بالإضافة إلى سنوات من إدارة السلطة الفلسطينية لجزء من الأراضي المحتلة، والتي شهدت مسؤولين فاسدين يراقبون الفلسطينيين بالتعاون مع الأمن الإسرائيلي، هو ما أنتج فراغا في السلطة تمكنت حماس من ملئه. لقد تمكنت تلك المنظمة من تقديم نفسها على أنها القوة الفلسطينية المهمة الوحيدة التي تعارض الاتفاقات.

وكان ذلك تحولا مأساويا في الأحداث، فقيادة حماس برجوازية ومشروعها رجعي، ولها نظرة سلبية تجاه الاحتجاجات الجماهيرية للشعب الفلسطيني. وعلى سبيل المثال، فقد قاموا مرارا وتكرارا بقمع احتجاجات الشباب خلال فترة إدارتهم لغزة.

كانت الانتفاضة الثانية، التي كانت أكثر تأثرا بحماس وغيرها من الجماعات الأصولية الإسلامية، هي التي شهدت استخداما مكثفا للتفجيرات الانتحارية وغيرها من أساليب الإرهاب الفردي. لقد بدأت بانتفاضة شعبية، بعد أن قام أرييل شارون -تحت حراسة المئات من شرطة مكافحة الشغب الإسرائيلية- بزيارة استفزازية لمسجد الأقصى في شتنبر 2000. وردت قوات الأمن الإسرائيلية على الفور بإطلاق النار على المتظاهرين. أدى ذلك إلى زيادة تصعيد الوضع الذي كان متوترا للغاية أصلا. وهذا ما يفسر أيضا لماذا تحولت الانتفاضة الثانية بسرعة كبيرة إلى صراع مسلح على كلا الجانبين. كان العدد الإجمالي للقتلى هذه المرة أكبر بكثير، حيث قُتل أكثر من 4300 شخص، معظمهم من الفلسطينيين، لكن أيضا مع عدد كبير من القتلى الإسرائيليين، من الجنود والمدنيين على حد سواء.

عندما تخلط وسائل الإعلام اليوم بين الانتفاضة وبين الدعوة إلى شن هجمات عنيفة ضد اليهود في إسرائيل، فإنها تركز على الانتفاضة الثانية -في حين تتجاهل دائما ما أدى في الواقع إلى طابعها العنيف، ألا وهو غياب القيادة الثورية خلال الانتفاضة الأولى التي دخلت في طريق مسدود وخيبت تطلعات الجماهير. وقد ترافق ذلك مع سنوات من القمع العنيف من جانب قوات الأمن الإسرائيلية.

دعونا لا ننسى أنه خلال الانتفاضتين، كانت نسبة القتلى الفلسطينيين مقارنة بالإسرائيليين هي ثلاثة إلى واحد. وهذا يعطي فكرة عن مصدر معظم أعمال العنف. وهنا لا بد من العودة إلى مقال هوارد فرينش حيث يقول:

“لم تقترب أي من تلك الانتفاضتين من أن تكون إبادة جماعية. ومع أن الخلط بين الانتفاضة والإبادة الجماعية يجري الآن على ما يبدو، فإنه يتعين على العالم أن يسأل نفسه: ماذا يعني القول بأن الانتفاضة، أو الانتفاضة المدنية من جانب الفلسطينيين، غير مسموح بها؟ هل نريد حقا أن نقول إنه لا ينبغي لهم أن يكونوا قادرين على مقاومة المصير البائس والمقيد الذي سجن أعدادا كبيرة من أبناء شعبهم في حياة يائسة في غزة، أو أنه ينبغي عليهم أن يقبلوا برؤية الأراضي في الضفة الغربية، التي كانوا يعيشون فيها ذات يوم، بينما تعمل إسرائيل على ضمها بشكل مطرد وتتعرض بشكل متزايد لهجمات عنيفة؟ هل يعني ذلك أنه على الفلسطينيين في غزة أن يستسلموا للقصف والتجويع على أراضيهم؟

والأهم من ذلك كله، هل يعني ذلك أنه يجب على الفلسطينيين أن يصمتوا، وأن يتخلوا عن مطالبهم بإقامة دولة خاصة بهم، وأن يقبلوا فقط بما تراه إسرائيل كافيا لهم؟ فهل توقف أصحاب هذا الرأي للتفكير في السبل المتاحة أمام الفلسطينيين للاعتراض على مثل هذه الأمور؟ هل يمكنهم أن يتخيلوا أنفسهم، للحظة، يقبلون ذلك؟”. [خط التأكيد من عندي].

هذه ملاحظة جيدة يمكن الاختتام بها! إن دعوتنا إلى “الانتفاضة حتى النصر” لا تنطوي على الإطلاق على أي تهديد للسكان اليهود العاديين الذين يعيشون حاليا في إسرائيل. إنها دعوة إلى النضال الجماهيري من قبل العمال والشباب الفلسطينيين، كما رأينا ذلك في 1987-1988. وهي دعوة لاستخدام أساليب الصراع الطبقي لتحقيق وطن للفلسطينيين. وبعد ثلاثين عاما انفضح خلالها زيف ما يسمى بحل الدولتين، تخلت الغالبية العظمى من الفلسطينيين اليوم عن ذلك المنظور.

إن شعار “الانتفاضة حتى النصر” هي، في نظر الشيوعيين الحقيقيين، دعوة للثورة الاجتماعية. ولا يمكن أن تعني إلا النضال من أجل دولة اشتراكية واحدة لشعبين، حيث لا تملك أي نخبة برجوازية صهيونية مقاليد السلطة، وحيث لا تقرر أي نخب عربية برجوازية مصير الجماهير الفلسطينية. وهذا المنظور هو وحده الكفيل بتحقيق التطلع إلى الحرية والعيش الكريم الذي عبرت عنه الانتفاضة الأولى.

الهوامش:

[1] (تسجيل من اسطوانة غرامافون خلال الحرب الأهلية، عام 1919. متوفرة مع الترجمة الإنجليزية على هذا الرابط)

[2] Emile Nakleh, ‘The West Bank and Gaza’, in the Middle East Journal, Spring 1988

[3] How Israel was Won: A Concise History of the Arab-Israeli Conflict

[4] Palestine and the Arab-Israeli Conflict – a History with Documents

[5] Charles D. Smith in his 2004 text, Palestine and the Arab-Israeli Conflict – a History with Documents

وقد اعتمدنا في الترجمة العربية على النص العربي المنشور في موقع مركز المعلومات الوطني الفلسطيني: بيانات الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة 1987)