مقدمة الترجمة العربية لكتاب "البلشفية: الطريق نحو الثورة"

دروس الثورة العربية[1]

تعتبر الترجمة العربية لكتاب “البلشفية الطريق نحو الثورة” حدثا في غاية الأهمية. لقد شكلت الثورة العربية مصدر إلهام حقيقي لملايين العمال والشباب في جميع أنحاء العالم. فهنا رأينا، على أرض الواقع، عظمة القوة التي تختزنها الجماهير. وإذا كان هناك من يشك في قدرة الجماهير على القيام بثورة، فهذا هو الجواب المدوي. والآن ما الذي أظهرته تلك الأحداث؟

إن صور ملايين العمال والفلاحين وهم ينهضون للإطاحة بدكتاتوريات الطغاة، في بلد عربي تلو الآخر، قدمت دليلا قاطعا على أن هناك قوة في المجتمع أعظم من أي حكومة أو جيش أو شرطة.

لقد أظهرت أنه عندما تتخلص الجماهير من خوفها، لا يعود في استطاعة أي قدر من القمع أن يوقفها. فبدون قيادة أو تنظيم أو برنامج واضح، نزلت الجماهير إلى الشوارع وأطاحت بحكوماتها.

لكن الثورة العربية العظيمة تظهر لنا أيضا شيئا آخر. إنها تثبت بشكل قاطع أنه بدون قيادة صحيحة، لا يمكن للثورة أن تنجح. لقد كانت السلطة في أيدي الجماهير، لكنها تسربت من بين أصابعها. كان يكفي لقادة الاحتجاجات أن يقولوا: “نحن نمتلك السلطة الآن. نحن الحكومة”. لكن هذه الكلمات لم تقل قط.

لقد فشل الثوار، رغم كل بطولاتهم، في استغلال الوضع لتوجيه الضربة القاضية للنظام القديم. كانت الجماهير تمتلك السلطة في أيديها، لكنها لم تعرف ماذا تفعل بها.

لقد ترددوا وفقدوا المبادرة، فتمكنت قوى النظام القديم من العودة. كانت الجماهير ترقص وتحتفل في الشوارع، بينما كانت قوات النظام القديم تعيد تجميع صفوفها وتتحرك لاستعادة السلطة بين أيديها. ونتيجة لذلك أعيدت ثمار النصر إلى المضطهِدين القدامى.

هذه حقيقة غير مستساغة، لكنها الحقيقة مع ذلك.

ثورة أكتوبر

تعد الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، مثالا إيجابيا عن كيف يمكن للطبقة العاملة أن تصل إلى السلطة، مثلما تعد الثورة العربية مثالا سلبيا، حيث توضح كيف يمكن للسلطة أن تنزلق من أيدي الطبقة الثورية، حتى عندما تكون السلطة في قبضتها.

أين يكمن الاختلاف بين الثورتين؟ لا يوجد الاختلاف في الظروف الموضوعية، بل يوجد بالكامل في غياب العامل الذاتي، أي: الحزب والقيادة. كانت روسيا القيصرية بلدا متخلفا للغاية وشبه إقطاعي، أكثر تخلفا بكثير مما هي عليه مصر اليوم. كانت الطبقة العاملة أقلية صغيرة من السكان، ومع ذلك فقد تمكنت، تحت قيادة البلاشفة، من الإطاحة بالنظام القيصري الجبار واستولت على السلطة.

في آخر كتاب كتبه على الإطلاق، والذي بقي غير مكتمل على مكتبه في غشت 1940 عندما تعرض للاغتيال على يد أحد عملاء ستالين، كتب تروتسكي -الرجل الذي قاد مع لينين ثورة أكتوبر- التحليل الرائع التالي عن القوى الرئيسية في الثورة:

"يصل الصراع بين الطبقات إلى نقطة تنشأ فيها توترات لا تطاق. هذا هو المنطلق الاقتصادي للثورة. وعلى أساس هذا الواقع الموضوعي تنشأ إعادة تجميع محددة، يتم التعبير عنها في علاقات سياسية محددة وحالات وعي محددة في العلاقة بين الطبقات. لهذه السيرورات طابع سيكولوجي. إنها، في التحليل الأخير، محكومة بالطبع بالأزمة الاجتماعية الموضوعية، لكن لديها منطقها الداخلي الخاص وديناميتها الخاصة: قوة الإرادة، والاستعداد للنضال، أو بالعكس الارتباك والانحلال والجبن. دينامية الوعي هذه هي بالضبط التي تحدد بشكل مباشر اتجاه الثورة ونتائجها.

إن ما يميز حقبة المد الثوري هو، من ناحية، اندلاع التناقضات المتزايدة والتنافر والارتباك بين صفوف الطبقات السائدة القديمة، ومن ناحية أخرى، وجود تضامن متزايد بين صفوف الطبقة الثورية الرئيسية، والتي تتجمع حولها جميع الطبقات المضطهَدة الأخرى على أمل تحسين أوضاعها. وأخيرا، الطبقات والفئات الوسيطة التي إما تظل محايدة أو تنجرف في دوامة الأحداث إلى جانب هذه الطبقة الرئيسية أو تلك.

تتمكن الثورة من الانتصار عندما تنجح الطبقة الثورية في كسب أغلبية الفئات الوسطى، وتصبح بذلك الناطق باسم غالبية الأمة. في الحقبة الثورية يمكن تمييز الشعارات التي يدور الصراع تحتها، شعارات الطبقة الثورية التي تسعى إلى حسم السلطة. وتصبح الثورة ممكنة عندما تجتذب طليعة البروليتاريا، المنظمة داخل الحزب، الغالبية العظمى من الطبقة وراءها، وتعزل العناصر المحطمة والمحبَطة وتحولها إلى قوى غير مؤثرة.

مستوى التضامن العالي بين صفوف الطبقة الثورية يقابله بقدر متساو الانحلال والانقسامات الداخلية داخل الطبقات القديمة. لكن الطبقات ليست متجانسة، سواء اجتماعيا أو أيديولوجيا. داخل البروليتاريا من الممكن دائما التمييز بين طليعتها، وبين الفئات الوسطية والمتوسطة، وأخيرا الفئات المتخلفة وحتى الرجعية. بمجرد أن تتحد البروليتاريا بأغلبيتها حول الطليعة الثورية، تكتسح جزءا كبيرا من الطبقات الوسيطة الساخطة والمضطهَدة والفئات الدنيا من البرجوازية الصغيرة، وتعمل على تحييد الفئات الأخرى، ويؤدي هجومها إلى تأزيم الطبقة السائدة التي أفلست. تحطم مقاومة الجيش، وتكسب جزءا كبيرا منه إلى جانبها، وتدفع الباقي إلى اتخاذ موقف حيادي، وتعزل العناصر الأكثر رجعية. هذه، بشكل عام، هي صيغة الثورة البروليتارية"[2].

في هذه الفقرات القليلة الموجزة، يلخص تروتسكي ببراعة الدور الحقيقي للحزب الثوري.

أهمية النظرية

كان العامل الحاسم في نجاح الثورة الروسية هو وجود الحزب الماركسي: الحزب البلشفي بقيادة لينين وتروتسكي. ذلك الحزب لم يسقط من سماء زرقاء صافية. ولم يكن من الممكن ارتجاله في خضم الأحداث. لقد تم بناؤه بصعوبة كبيرة على مدى عشرين عاما، معظمها في ظروف العمل السري القاسية.

من المستحيل العثور في تاريخ كل الأحزاب السياسية، على مثال مشابه للبلاشفة الذين نموا في فترة قصيرة، من عقدين، من مجرد مجموعة صغيرة إلى حزب جماهيري قوي قادر على قيادة ملايين العمال والفلاحين إلى الاستيلاء على السلطة.

لكن قبل فترة طويلة من قيام البلاشفة بطرح مسألة السلطة، كان على الحزب أن يمر بفترة طويلة، مرورا بمجموعات صغيرة سرية تتكون بشكل أساسي من الطلاب والمثقفين. كان التركيز الرئيسي على تثقيف الكوادر على أساس الأفكار العلمية للماركسية.

في الأيام الأولى كان على لينين أن يخوض صراعا قاسيا ضد التحريفية والتيار الذي أصبح يعرف باسم “الاقتصادوية”. جادل مؤيدو هذا التيار بأن العمال لا يهتمون إلا بالحصول على إصلاحات في المسائل الاقتصادية، أو ما يسمى بالمسائل “الخبزية”، وأنهم لا يهتمون بالمسائل السياسية العامة، بل فقط بالعمل النقابي “العملي”.

كان هذا هو جوهر الاقتصادوية. وقد لخصه بشكل واضح قول إدوارد برنشتاين الشهير: “الحركة كل شيء. الهدف النهائي لا شيء”. هذا النهج الضيق أظهر في الواقع ازدراءً للطبقة العاملة، واحتقارا لقدرتها على فهم السياسة والنظرية. وهكذا فإنه تحت ستار النزعة “العمالية”، كان ذلك التيار يمثل بالفعل نزعة مناهضة للبروليتاريا والثورة.

شن لينين حربا شاملة على الاقتصادويين وقد كان محقا تماما في القيام بذلك. قال: “لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية”.

لولا هذا النضال من أجل النظرية الثورية، لما كان لينين لينجح في بناء الحزب الذي تمكن لاحقا من قيادة البروليتاريا إلى النصر في عام 1917. ومع ذلك فإنه حتى اليوم، ما يزال المرء يجد أناسا يسمون أنفسهم لينينيين لكنهم لم يفهموا ذلك.

الدور الرجعي للستالينية

كانت المهمة التي حددتها لنفسي عند كتابة “البلشفية: الطريق نحو الثورة”، هي هدم كل الأساطير القديمة وتقديم سرد حقيقي وموضوعي للقارئ عن كيف تم بناء الحزب البلشفي، بكل نجاحاته وإخفاقاته وانتصاراته وهزائمه. كان ذلك يتعارض تماما مع التاريخ الستاليني القديم، الذي يعرض صعود الحزب البلشفي وكأنه مسيرة ظافرة نحو نصر حتمي.

هذه الروايات السطحية تشبه الخرافة اكثر مما تشبه الحقيقة، وقد انفضح زيفها بشكل كامل. أما بالنسبة لتلك القلة من الناس الذين ما زالوا يخصصون وقتا لقراءتها فإنهم لا يجدون فيها شيئا يستحق الذكر.

لعبت الستالينية في العالم العربي دورا أكثر كارثية ورجعية من أي مكان آخر. تبنى ستالين النظرية المنشفية للثورة عبر مراحل، والتي تخضع بموجبها البروليتاريا وحزبها لما يسمى بالبرجوازية “التقدمية”، وفرضها على الأحزاب الشيوعية في البلدان المستعمَرة حيث أدت إلى هزائم دموية متتالية.

أخضعت الأحزاب الشيوعية في العراق والسودان والعديد من البلدان الأخرى، نفسها للقادة العرب البرجوازيين “التقدميين”، فوجدت نفسها خارج القانون وتعرضت للسحق والتقتيل. وقد حدث الشيء نفسه على نطاق أكثر فظاعة في إندونيسيا.

إن القطيعة الجذرية مع التقاليد الستالينية الضارة، والعودة إلى الأفكار الحقيقية للبلشفية اللينينية (“التروتسكية”) هو الشرط المسبق لبناء حزب شيوعي حقيقي قادر على قيادة الجماهير إلى النصر في المستقبل. ولذلك من الضروري القيام بدراسة جادة لتاريخ البلشفية.

بناء الحزب الثوري!

يكمن سبب هزيمة الثورة العربية العظيمة في فشل الطبقة العاملة في الاستيلاء على السلطة عندما أتيحت لها الفرصة للقيام بذلك. وهذا ما مكّن قوى الثورة المضادة من استعادة زمام المبادرة، وقمع الاحتجاجات في محاولة لاستعادة النظام. وقد دفعت شعوب مصر وتونس وبلدان أخرى ثمنا باهظا جراء هذا الفشل.

لكن هذا لا يعني أن الثورة العربية قد انتهت. الغليان لم ينته بعد. ولم يتم حل أي من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الأساسية التي دفعت الجماهير إلى النضال. ستعاود الثورة الظهور في المستقبل على مستوى أعلى. لكنها ستواجه فترة أكثر صعوبة وآلاما أكبر بكثير مع المزيد من التضحيات.

ستكون مهمة الثورة أكثر سهولة، وستسيل دماء أقل وستكون المعاناة أقل بكثير، إذا توفر حزب ثوري حقيقي، مستعد لقيادة الجماهير على طريق النصر وقادر على ذلك. وأقصد بهذا حزبا على غرار الحزب البلشفي بقيادة لينين وتروتسكي.

صحيح أن الثورة العربية المستقبلية ستواجه العديد من الصعوبات، لكنها من وجهة نظر موضوعية سوف تحدث في ظرف تاريخي مناسب للغاية. فبينما أنا أكتب هذه السطور، يجد النظام الرأسمالي نفسه غارقا في أعمق أزمة يشهدها منذ مائتي عام.

صحيح أن الظروف الموضوعية تختلف من بلد إلى آخر. يمكن للأحداث أن تتحرك بسرعة أو بوتيرة أبطأ. لكن الأحداث في كل مكان تتحرك في نفس الاتجاه: نحو مزيد من الاضطرابات وتكثيف هائل للتناقضات على جميع المستويات: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

وهناك شيء واحد مؤكد تماما وهو أن الوضع برمته يحبل بالتغيرات الحادة والمفاجئة. رأينا ذلك في بداية العام في كازاخستان، ونراه الآن مرة أخرى في العديد من البلدان، من الإكوادور إلى سريلانكا. هذه ليست أحداثا معزولة. إنها تشبه ومضات البرق الحراري التي تعلن قدوم العاصفة.

والأهم من ذلك هو أن هناك تغيرات مهمة تحدث في سيكولوجية الجماهير تمهد الطريق لانفجارات اجتماعية وسياسية كبيرة.

وفي هذا السياق تمثل الأنظمة البرجوازية الفاسدة والمتعفنة السائدة في بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط حلقة ضعيفة في سلسلة الرأسمالية العالمية، تماما مثلما كانت عليه روسيا القيصرية في عام 1917. إنها أنظمة مفلسة تماما وممزقة بتناقضات داخلية عميقة.

ليس لديها أي حل للمعاناة الرهيبة والفقر الذي تعاني منه الجماهير، والذي يزداد سوءا مع مرور الأيام. وعلى الرغم من المظهر الخارجي الذي يوحي بالقوة، فإن هذه الأنظمة ضعيفة وغير مستقرة. إنها مثل عمالقة بأقدام من طين، محكوم عليها بالسقوط، وكلما زاد حجمها، كلما كان الانهيار أشد.

الحقيقة هي أن هذه الأنظمة لا تستمر في البقاء بفعل قوتها الخاصة، بل فقط بفعل الخمول والتعب المؤقتين للجماهير التي تحتاج إلى وقت للتعافي من الهزائم السابقة. يجب على الثوريين أن يستفيدوا من هذا التأخير لإعادة تنظيم وتجميع قواتهم، والتثقيف واستخلاص الدروس من تلك الهزائم، والبدء بصبر في مهمة البناء، لبنة لبنة، لصرح الحزب البلشفي.

هذا الكتاب، على عكس بقية الكتب عن تاريخ البلشفية، ليس مجرد سرد لأحداث واقعية بدون هدف أشمل. لقد كان هدفي من وراء تأليفه هو استخلاص دروس جيل البلاشفة الذين أسسوا حزبا ثوريا ونجحوا في قيادة الطبقة العاملة إلى السلطة. ليست المهمة المطروحة هي وضع هذه الدروس في صفحات الكتب المدرسية الجافة، بل هي إعادة إحياء هذه الدروس في أذهان مناضلي الطبقة العاملة اليوم. إن أفكار وأساليب البلشفية هي أعظم سلاح في يد للطبقة العاملة، فهي توضح الطريق نحو الثورة وتحرير البشرية من أغلال المجتمع الطبقي.

آلان وودز
لندن 23 غشت 2022


[1]: إشارة من المترجم: قد تخلق صيغة “الثورة العربية” بعض سوء الفهم حول المقصود بعبارة “عربية”، حيث أن سكان شمال افريقيا والشرق الأوسط ليسوا بالضرورة عربا، وما إلى ذلك... لذلك وجب التوضيح أن الكاتب يستعمل صيغة “ثورة عربية”، في إشارة إلى تلك الثورات التي شهدتها المنطقة التي تعرف تاريخيا بـ “العربية”؛ وذلك بنفس الطريقة التي استعمل بها لينين وتروتسكي صيغة “ثورة روسية” في إشارة إلى الثورة ضد النظام القيصري (سواء 1905 أو 1917) رغم علمهما أن الإمبراطورية القيصرية الشاسعة الأطراف لم تكن مشكلة من روسيا وحدها، ولا من القومية الروسية/ السلافية وحدها، بل وتعاملا بكل حزم مع محاولات “روسنة” الشعوب الأخرى، سواء في مرحلة ما قبل الثورة أو بعدها، نفس الشيء يقال عن استعمال تروتسكي لاحقا لصيغة “ثورة إسبانية” في حديثه عن ثورة 1936- 1939 والتي شارك فيها الباسك والكاطلانيون، الخ. 

[2]: Trotsky, Stalin, The Thermidorian reaction, pp. 651-2, the new English edition