البلشفية طريق الثورة الفصل الرابع: النهوض المخبر مالينوفسكي

بالإضافة إلى المجموعات التي سبق ذكرها، كان هناك تيار آخر حاضر في كونفرانس براغ، وإن بصفة "غير رسمية". كانت الشرطة السرية القيصرية، الأوخرانا، قد نجحت في وضع مخبريها في أعلى مستويات المسؤولية داخل الحزب، وكان بعضهم، وبالضبط اثنين منهم، حاضرين خلال المؤتمر البلشفي التأسيسي، بدون علم بقية المندوبين. لم يكن مندوب موسكو سوى العميل المخبر السيئ السمعة: رومان مالينوفسكي، العضو في فريق الدوما البلشفي، والذي رافقه في هذه المناسبة عميل آخر هو أ. رومانوف، مندوب المنطقة الصناعية المركزية. كانت كل خطابات وقرارات الكونفرانس معروفة للشرطة بسبب تقاريرهما المفصلة. وفي محاولة لحماية أعضاء اللجنة المركزية الجديدة من خطر الاعتقال، تم استخدام أساليب سرية خاصة للحماية من الشرطة. فقد كتب كل مندوب لقب من يرشحهم لعضوية اللجنة ثم سلم الورقة إلى لينين. حتى النتيجة لم تعلن خلال الكونفرانس. لكن رومان مالينوفسكي، الذي كان مخبرا ذو مهارات عالية، كان قد قام بعمل فعال جدا لكسب ثقة لينين. نجح مالينوفسكي ليس فقط في الحصول على أسماء أعضاء اللجنة المركزية، بل وتمكن أيضا من الحصول على أسماء فريق الدوما. كان هناك مخبرون داخل جميع أجهزة الحزب في روسيا. وتعرض الحزب لسلسلة من غارات الشرطة في بيترسبورغ في فبراير ومارس 1912. وفي رسالة مؤرخة بـ 28 مارس، كتب لينين بقلق أن "أوضاعنا سيئة هناك".

[Source]

إن وجود جاسوس على هذا المستوى الرفيع داخل الحزب يشهد على الكفاءة والمثابرة الاستثنائيتين للشرطة السرية القيصرية. لم يكن ذلك حدثا معزولا، فقد تم تطوير تكتيك الاستخبار والتجسس إلى درجة عالية من قبل النظام القيصري على مدى فترة طويلة. وكان الحزب البلشفي يعاني باستمرار من اختراقات البوليس الذين نجح بعضهم في التسرب إلى مواقع رئيسية داخل الحزب، مثل حالة شخص يدعى زيتوميرسكي، الذي تمكن حتى قبل عام 1905 من احتلال موقع هام داخل المنظمة السرية في برلين، حيث تعاون مع بياتنيتسكي في نقل الأدب البلشفي إلى روسيا. تتذكر بوبروفسكايا قائلة: «لقد كان يبدو واحدا منا في كل شيء، كان يبدو بلشفيا مخلصا 100٪».[1] وبعد هزيمة دجنبر، ونقل المركز البلشفي مرة أخرى إلى الخارج، قدم زيتوميرسكي خدماته لاستعادة العلاقات القديمة في أوروبا وتنظيم نقل الأدب البلشفي السري إلى روسيا. تم قبول العرض. وبعد فترة، أصبح عضوا في الهيئة التقنية الهامة داخل اللجنة المركزية المسؤولة عن جميع المهام السرية. نتيجة لذلك كانت السلطات القيصرية دائما ما تسبق الثوريين بخطوة إلى الأمام، وكانت تكتشف المجموعات البلشفية الواحدة منها تلو الأخرى وتعمل على سحقها. لم يتم القبض عليه بالجرم المشهود إلا عام 1911. وقد تمكن من النجاة حيث أنقذه أسياده، إلا أنه كان هناك الكثير من الآخرين ليحلوا محله.

كانت هناك العديد من الأسباب التي جعلت الأوخرانا ناجحة جدا في اختراق الحركات الثورية (وليس البلاشفة فقط) في ذلك الوقت. لقد تسببت هزيمة ثورة 1905، كما سبق لنا أن رأينا من قبل، في انتشار الإحباط على نطاق واسع، وخاصة، لكن ليس حصرا، بين المثقفين. فقد الكثير من الناس البوصلة. إن الانهيار الأيديولوجي والشك والكلبية والردة، كلها نتائج طبيعية لمثل هاته المراحل، التي هي شائعة جدا في تاريخ الحركة. إن الثوري المفتقد للفهم النظري اللازم، والقناعة المبدئية، المعزول في السجن، تحت وطأة استنطاق قاس على يد عملاء مهرة، يمكنه أن ينهار تحت الضغط. بعد ذلك يصير للأشياء منطقها الخاص. كما أنه ليس من الصعب فهم السهولة التي يتمكن بها بعض هؤلاء العملاء من الوصول إلى أعلى مراكز المسؤولية، ففي فترة الردة الرجعية المتفشية، عندما كانت المنظمات الحزبية محطمة وكان الأشخاص الأكثر خبرة في السجن أو المنفى، صار من الحتمي أن تحل محلهم عناصر جديدة لم يتم اختبارها. ومن بين هؤلاء كان من السهل نسبيا على الشرطة أن تقحم عملاءها. وبالنظر إلى النقص الشديد في المناضلين المؤهلين، كان في مقدور أي شخص يظهر بعض المواهب أن يحصل على فرصة جيدة للوصول إلى منصب قيادي. ويمكن تسهيل طريق وصوله إلى مراكز القرار بمجرد قيام الشرطة باعتقال أي شخص يمثل عقبة أمامه.

في هذا السياق ليس من الصعب تفسير صعود رومان مالينوفسكي. كان مالينوفسكي، البولندي بالولادة، شخصا ماهرا ذكيا وحيويا، لكن مع سمات مغامر. وقبل أن ينتقل إلى موسكو، كان رئيسا لنقابة عمال الصلب بسان بيترسبورغ. تعرض مالينوفسكي للاعتقال والنفي بسبب نشاطه الحزبي. ولذلك صارت سمعته لا تشوبها شائبة، ولم يكن هناك شيء قد يؤدي إلى الشك في وجود جانب مظلم عنده، على الرغم من أنه كان قد صار عميلا للشرطة القيصرية في عام 1910. في الواقع، ساعدته الشرطة على أن يصير المرشح البلشفي إلى البرلمان، بالطريقة المعتادة التي كانت القبض على المرشحين الآخرين! تظهر سجلات الشرطة أنه كان يتلقى مبلغا من المال مقابل كل عملية اعتقال، 500 روبل و700 روبل، الخ. لكن من المرجح أن رجلا مثل مالينوفسكي لم يكن يعمل من أجل المال فقط. هناك نوع من الأشخاص الذين يمتلكون نفسية المغامر، أناس من دون أي مبادئ ثابتة يحبون الإثارة، بل ويحسون بنوع من الفخر بقدرتهم على خداع الناس، وهلم جرا. في عالم الإجرام يمكن لمثل هؤلاء الناس أن يحققوا نجاحات كبرى كمخادعين- إلى أن يتم القبض عليهم. كان مالينوفسكي من ذلك النوع من الثوريين السابقين المحبطين الذين قضت الكلبية فيهم بشكل كامل على كل انتماء طبقي وقتلت فيهم كل ضمير. إن عنصر المغامرة والإثارة التي يخلقها التمثيل والحياة المزدوجة والخطر الذي يلازم حياة الجواسيس، ساعده ربما على تخفيف حدة الشعور بالخيانة وتعطيل عقله عن التفكير في بشاعة وهول ما كان يقوم به. وفي كل الحالات يبدو أنه كان يشعر بالفخر بـ"عمله"، الذي كان ناجحا للغاية لبعض الوقت.

قام مالينوفسكي، طيلة فترة عمله في الدوما، بعمل جيد وكان ذا شعبية كبيرة لدرجة أنه لا أحد اشتبه في كونه عميلا للبوليس. وعندما اتهمه المناشفة بكونه عميلا، رفض لينين التهمة باستنكار، وهو الأمر الذي يمكن تفهمه، فالصراع بين الفصائل كان شديدا إلى درجة أنه خلق كل أنواع الشائعات غير المسؤولة ضد الأفراد. وقد أرجع لينين ذلك بشكل طبيعي إلى الصراع التكتلي المعتاد والإشاعات المغرضة حول عضو بارز بالفريق البلشفي داخل الدوما، ينشرها أعداؤه. تتذكر بوبروفسكايا الجو الذي كان سائدا داخل حلقات الحزب في موسكو مباشرة بعد كونفرانس براغ. كان شقيقها قد تعرض للاعتقال وتم تفتيش شقتهم من قبل الشرطة بعد وقت قصير من تسليمه لعناوين وأماكن الاجتماع السرية على الحدود لمالينوفسكي قبل سفره كمندوب.

«عندما سمح لي بالزيارة الأولى لأخي، تمكن من أن يهمس لي قائلا: "هناك شخص ما يتجسس في موسكو؛ صرت متأكدا من ذلك بعد استجوابي الأول من قبل الشرطة". ومع ذلك لم يكن هناك أحد أبعد عن الشبهات في هذا الصدد مما كان مالينوفسكي؛ أي شخص آخر ما عداه هو، إنه نجمنا الصاعد، الذي استقطبت خطاباته داخل دوما في وقت لاحق اهتماما عاما»[2]

لكن كل نجاحاتهم في التسلل إلى المنظمات الثورية، حتى أعلى المستويات، وجميع أعمال الاستخبار والتجسس والاعتقالات، لم تفدهم شيئا في آخر المطاف. هناك اتجاه عام من جانب الأنظمة المفلسة تاريخيا لإيلاء أهمية مفرطة للقوة المفترضة للدولة، وخاصة الجانب التقني لجهاز القمع. ويمكن أن تجد هذه الفكرة أحيانا عند بعض "الماركسيين" الذين قد يتبنون موقف احترام غريب لسلطة الدولة - والذي هو انعكاس لأوهام الطبقة الحاكمة. في الواقع، كل قوى الدولة تنهار وتتحول إلى غبار في اللحظة التي تواجهها قوة الجماهير المنظمة والعازمة على وضع حد لعبوديتها وتغيير المجتمع. من الصعب تخيل دولة أكثر قوة (على ما يبدو) من الدولة القيصرية الروسية بجيشها الجبار والعدد الهائل من قوات الشرطة والمساعدين القوزاق والبيروقراطية الواسعة. وكانت الشرطة السرية من بين أذرع تلك الدولة - كما هو الحال في أي دولة أخرى. طور ذلك الجهاز تكتيكات الاختراقات والتجسس إلى مستويات لا يمكن تصورها. لكن، وفي لحظة الحقيقة، ماذا كانت فائدة كل ذلك؟ فالطبقة العاملة، بقيادة الحزب البلشفي، كنست كل شيء جانبا بضربة من يدها.

ستتخذ المنظمة الثورية، بطبيعة الحال، جميع التدابير الممكنة لمكافحة وعرقلة محاولات الدولة الرأسمالية التجسس عليها والتسلل إلى صفوفها (وهذه حقيقة من حقائق الحياة حتى في معظم الدول "الديمقراطية")، لكن في آخر المطاف، لا يمكن لهذه التدابير أن تكون حاسمة، بل يمكن أن تكون لها نتائج عكسية. ومن المفارقات أن العملاء مثل مالينوفسكي، وبالتحديد من أجل إبعاد أنفسهم من دائرة الشكوك، يكونون هم أنفسهم مضطرون للقيام بالعمل لصالح الثورة. بعد سنوات على ذلك، وبعد حسم البلاشفة للسلطة، كان لينين عميقا جدا في الموقف الذي أعطاه من قضية مالينوفسكي. لقد تمكن مالينوفسكي بالتأكيد من خيانة العشرات من الرفاق وتعريضهم للاعتقال والأشغال الشاقة والموت. لكنه وبينما يقوم بذلك كان مضطرا لمساعدة الحزب على إصدار صحيفة شرعية: برافدا. كان يرسل الرفاق إلى السجن بيد، وباليد الأخرى، ومن أجل تفادي افتضاح أمره، كان يساعد على بناء الحزب الثوري. هذه هي سخرية الحياة! وقد رافقت السخرية مالينوفسكي حتى وفاته. عندما اختفى فجأة، قبل الحرب العالمية الأولى بفترة وجيزة، وضاعف المناشفة هجماتهم، وظل لينين يرفض تصديق التهمة، على الرغم من أن الحادث كان تطورا غير سار. وعندما طرد مالينوفسكي أخيرا، كان ذلك بتهمة انتهاك شروط الانضباط الحزبي، بسبب تخليه عن منصبه دون إذن!

فقط بعد ثورة أكتوبر، عندما فتح البلاشفة أخيرا ملفات الشرطة، ظهرت الحقيقة المذهلة حول دور مالينوفسكي الحقيقي. وما حدث بعد ذلك كان من الغرابة بحيث يجعله جديرا بقصص الجاسوسية الخيالية. في الوقت الذي كانت أرشيفات الأوخرانا تكشف عن أسرارها، كان مالينوفسكي يعمل في ألمانيا دبلوماسيا سوفياتيا. عندما تلقى الاستدعاء المصيري للعودة إلى موسكو، كان عليه أن يدرك على الفور أنه قد انفضح. وعلى الرغم من أنه كان من السهل عليه أن يفر بجلده، فإنه عاد إلى روسيا. لماذا عاد؟ هل كان محبطا جدا إلى درجة أنه لم يعد يهتم بما سيحدث له؟ أو، وهذا ما يبدو أكثر احتمالا، هل كان يمني نفسه بطلب رحمة الحزب، وادعاء الولاء للثورة؟ إذا كان الأمر كذلك، فقد سارت الأمور بشكل سيء بالنسبة له. لقد دفع مالينوفسكي حياته ثمن جرائمه.