البلشفية طريق الثورة الفصل الثالث: مرحلة الردة الرجعية المؤتمر الخامس (لندن)

أدى تصرف الفريق البرلماني في الدوما إلى استياء كبير بين قواعد الحزب. وكان ذلك أحد الأسباب وراء الدعوة إلى عقد المؤتمر الخامس (لندن). خلال شهري فبراير ومارس 1907، تركز اهتمام الحزب على الأعمال التحضيرية للمؤتمر. وكما كان متوقعا، حدث تقاطب في جدول الأعمال بين القرارات المتضاربة التي قدمها الفصيلان البلشفي والمنشفي. كان من المقرر في البداية أن ينعقد المؤتمر في الدنمارك، لكن السلطات القيصرية اتصلت بالحكومة في كوبنهاغن وأقنعتها برفض الترخيص بعقده. ثم حاولوا نقله إلى مالمو، لكن الحكومة السويدية أوضحت لهم أنهم غير مرحب بهم، لذلك اضطروا إلى حمل حقائبهم مرة أخرى. في نهاية المطاف حط المؤتمر الرحال في لندن، حيث انعقد في كنيسة بشارع ساوثجيت، والتي، لسخرية التاريخ، كانت تابعة لألد أعداء الثورة، جمعية فابيان الاصلاحية اليمينية.[1]

بعد سنوات عديدة يتذكر غوركي قائلا:

«ما أزال أستطيع أن أرى بوضوح أمامي تلك الجدران الخشبية العارية غير المزخرفة إلى درجة التقشف، والنوافذ التي تطل على قاعة صغيرة وضيقة تشبه قاعة دراسية في مدرسة فقيرة».[2]

في مثل هذا المكان الكئيب اجتمع الثوار للبث في مصير الثورة الروسية.

في تمام الساعة السابعة من مساء يوم 30 أبريل افتتح المؤتمر الخامس، واستمرت أشغاله ثلاثة أسابيع تقريبا، حتى 19 ماي 1907. كان اجتماعا بالغ الأهمية. على الرغم من الظروف الصعبة، كان هذا المؤتمر هو الاجتماع الأكثر تمثيلية للحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية من كل ما سبقه. كان هناك ما لا يقل عن 303 من المندوبين، فضلا عن 39 عضوا آخر لهم صوت استشاري. كان هناك مندوب واحد لكل 500 عضو في الحزب (أي ما مجموعه 150.000 عضو في 145 منظمة حزبية)، 100 منظمة منها تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، وثماني منظمات للحزب الاشتراكي الديمقراطي البولندي والحزب الاشتراكي الديمقراطي الليتواني، بالإضافة إلى سبع مجموعات لاتيفية و30 مجموعة تنتمي لحزب البوند. كان هؤلاء هم جيش الثورة. وعلى الرغم من أن معظمهم كانوا ما زالوا في العشرينات من عمرهم، فإنه لم يكن من بينهم أي شخص لم يتصلب عوده بتجربة السجن والنفي. ومنذ انعقاد المؤتمر السابق، قبل 12 شهرا، زادت أعداد الفرع الروسي للحزب من 000 31 عضو إلى 000 77، أي بمعدل مرتين ونصف. ومع ذلك فإنه يجب التعامل مع هذه الأرقام بحذر، فحدة الصراع الفصائلي دفعت الجانبين إلى تضخيم أعداد العضوية. لكن ومع أخذ ذلك في الاعتبار فإنه من الواضح أن الحزب استمر في النمو، حتى خلال فترة الرد الرجعية، الشيء الذي لم يكن يعكس مزاج الجماهير، بل كان يعكس تجذر الفئة الأكثر وعيا بين العمال والطلاب. ولنفس السبب فقد نما الجناح اليساري للحزب بمعدل أسرع من نمو الجناح اليميني.

كان التوازن بين الفصائل يقف على حافة السكين. في بداية عام 1906، كانت قوى البلاشفة والمناشفة في سان بيترسبورغ متساوية تقريبا. لكن خلال الفترة الفاصلة بين الدوما الأول والثاني، تمكن البلاشفة من تحقيق التقدم. وبحلول وقت الدوما الثاني، يذكر تروتسكي بأنهم «كانوا قد حصلوا بالفعل على الهيمنة الكاملة بين صفوف العمال المتقدمين».[3] وقد انعكس هذا التحول في تكوين مؤتمر لندن. لقد كان مؤتمر ستوكهولم منشفيا؛ بينما كان مؤتمر لندن بلشفيا. في المؤتمر السابق، كان عدد البلاشفة 13.000 مقابل 18.000 للمناشفة (مندوب واحد لكل 300 عضو في الحزب). أما الآن فقد صار الوضع مختلفا، فمن بين جميع المندوبين، كان هناك 89 بلشفي، و88 منشفي.

اجتمعت في ذلك المؤتمر كوكبة من أبرز المواهب لم يسبق لأي مؤتمر اشتراكي ديمقراطي أن جمعها. من أبرز المدافعين عن مواقف المناشفة كان هناك بليخانوف ومارتوف وأكسلرود وديوتش ودان. وكان من بين المندوبين البلاشفة لينين وبوغدانوف وزينوفييف وكامينيف وبوبنوف ونوجين وشوميان وليادوف وبوكروفسكي وتومسكي. كان غوركي، الكاتب المعروف، الذي كان قريبا من البلاشفة، حاضرا أيضا. كما حضر تروتسكي، الذي كان قد هرب مؤخرا من سيبيريا، باعتباره اشتراكيا ديمقراطيا من خارج الفصائل. وكان هناك أيضا شاب جورجي، كان يعرف باسم إيفانوف، والذي لم يكن لديه صوت خلال الأشغال، لأنه لم يكن منتدبا من أي منظمة حزبية معترف بها في القوقاز، وهي المنطقة التي كان يمثلها شوميان – الذي قتل في وقت لاحق على يد قوات الغزو البريطانية في باكو- وميخا تسخاكايا، الذي سافر مع لينين في "القطار المغلق" الشهير عام 1917. ذلك الزائر الصامت المسمى ايفانوف اكتسب لاحقا سمعة سيئة تحت اسم ستالين. لكنه في تلك المرحلة كان مجهولا في دوائر الحزب خارج فرعه المحلي، ومر حضوره في المؤتمر دون أن يلاحظه أحد.

من العوامل الرئيسية وراء غلبة الطابع اليساري على المؤتمر مشاركة الأحزاب غير الروسية، التي كانت تقف عموما على اليسار، مما أعطى البلاشفة الأغلبية. ومن بين المندوبين من بولندا وليتوانيا كانت هناك روزا لوكسمبورغ وماركليفسكي وتيسكا (جوغيتشس)، الذين شكلوا جزءا من مجموعة متماسكة مكونة من 44 عضوا كانت تدفع المؤتمر بشكل قوي نحو اليسار. وكان فيليكس دزيرجينسكي، الذي صار لاحقا رئيس التشيكا، سيكون عضوا في الوفد البولندي، لكنه تعرض للاعتقال في الطريق إلى المؤتمر. كما ترأس الاشتراكيين الديمقراطيين اللاتيفيين الراديكاليين كذلك زعيم مستقبلي آخر للتشيكا والجيش الأحمر، هو هيرمان دانشيفسكي. وقد أحاطت إدارة الشرطة علما بالتغييرات التي طرأت على المؤتمر، حيث أفادت في تقاريرها بأن: «مجموعات المناشفة في حالتها الراهنة لا تشكل خطرا كبيرا مثلما هم البلاشفة». وشملت التقارير أيضا التقييم التالي:

«من بين الخطباء الذين تحدثوا أثناء المناقشة دفاعا عن وجهة النظر الثورية المتطرفة هناك ستانيسلاف (بلشفي) وتروتسكي وبوكروفسكي (بلشفي) وتيشكا (الحزب الاشتراكي الديمقراطي البولندي)؛ أما دفاعا عن وجهة النظر الاصلاحية فهناك مارتوف وبليخانوف» (قادة المناشفة). ويواصل عميل الأوخرانة قائلا: «هناك مؤشر واضح بأن الاشتراكيين الديمقراطيين يتجهون نحو أساليب النضال الثورية... أما المناشفة، الذين ازدهروا بفضل الدوما، فقد تراجعوا في الوقت الحالي، عندما أظهرت الدوما عجزها، مما أعطى مجالا واسعا للبلاشفة، أو بالأحرى، للاتجاهات الثورية المتطرفة».[4]

من الممتع قراءة محاضر المؤتمر، ففيها نجد أول نقاش حقيقي بين البلاشفة والمناشفة حول التكتيكات والاستراتيجية. وبالمقارنة مع ذلك لم تكن الاختلافات التي شهدها المؤتمر الثاني في الواقع سوى استباق لما سيحدث مستقبلا. وحتى المناقشات المتعلقة بالخلاف حول تأميم الأراضي مقابل وضعها في ملكية البلديات، التي شهدها مؤتمر ستوكهولم، لم تصل حقا إلى جوهر المشكلة، التي برزت بوضوح تام في المؤتمر الخامس. كان جدول الأعمال مكونا من: نقاش تقارير اللجنة المركزية والفريق البرلماني في الدوما؛ وموقف الحزب من الأحزاب البرجوازية؛ ومسألة المؤتمر العمالي؛ ومجلس الدوما؛ والنقابات؛ وحركة الأنصار [الجناح المسلح]؛ والبطالة؛ والأزمة الاقتصادية؛ وإغلاقات المصانع؛ والمسائل التنظيمية؛ والمؤتمر الأممي؛ والعمل وسط الجيش.

افتتح مارتوف المؤتمر بقراءة تقرير اللجنة المركزية. وبما أن اللجنة المركزية كانت تحت سيطرة المناشفة، فقد قدم بوغدانوف وثيقة مضادة توضح وجهة النظر البلشفية. وهكذا افتتح المؤتمر بمناقشة ساخنة. لكن وعلى النقيض من المؤتمر السابق، صار المناشفة الآن في حالة دفاع. وعندما أكد بليخانوف في خطابه الافتتاحي للمندوبين أنه ليست هناك أي ميولات تحريفية داخل الحزب، انكمش لينين على نفسه وانخرط في ضحك صامت.

كان كل شخص تقريبا في ذلك المؤتمر ينتمي إلى هذا الفصيل أو ذاك، وتنعكس هذه الحقيقة في انتخاب هيئة الرئاسة، التي تألفت من خمسة مندوبين، واحد من كل مجموعة منظمة. اختار المناشفة دان واختار البوند ميديم واختار اللاتيفيون آزيس روزين والبولنديون تيزكا والبلاشفة لينين. وقد عبر المناشفة عن موقف خبيثا منذ البداية من خلال تشكيكهم في أوراق اعتماد لينين. في هذه اللحظة انفجر المؤتمر، وبدأ المندوبون يصرخون ويلوحون بقبضاتهم في وجه بعضهم البعض. ولم تتم استعادة النظام إلا عندما سحب المناشفة اعتراضاتهم، لكن الجلسة الافتتاحية أفسحت المجال أمام بقية أشغال المؤتمر.

هوامش:

1: لم يكن المقر سوى واحد من العديد من المفارقات التي ارتبطت بهذا المؤتمر. الشيء الأكثر غرابة هو الطريقة التي تم تمويل المؤتمر بها: فالحزب الذي كان مفلسا بجميع المقاييس، اضطر إلى البحث عن قرض، وهو ما تمكن غوركي أخيرا من الحصول عليه، من صاحب مصنع إنجليزي للصابون، بفضل وساطة الاشتراكي الإنجليزي، جورج لانسبري. كان من المقرر سداد القرض بحلول فاتح يناير 1908، لكن ربما لم يتفاجأ المقرض عندما لم يتوصل ولو بفلس واحد. غير أن الدين لم ينس، فبعد ثورة أكتوبر، قامت الحكومة السوفياتية، من خلال كراسين، سفيرها آنذاك في لندن، بإعادة الأموال إلى ورثة المقرض، الذين كانوا بدون شك مندهشين وهم يعيدون للحكومة السوفياتية الوثيقة التي تقر بالدين، والتي كانت موقعة من قبل جميع المشاركين في المؤتمر!

2: Piatnitsky, Zapiski Bol’shevika, 146.

3: Trotsky, Stalin, 89.

4: Trotsky, Stalin, 89